ليس جديدا القول أن المثقفين والمبدعين هم الأقرب لوجدان الشعب وضميره، يعول عليهم كثيرا في التعبير عن همومه وآماله وأحلامه، وبقدر ما يوفقون في ذلك يتكون ذلك المنجز الجمالي الذي يغذي الحاضر وينعشه ويمكن الشعب من مواجهة التحديات، ويمنح المستقبل تراكما من التراث الخالد!
هذا لا يعني أنهم يجب أن يوقفوا إبداعهم على قضاياه العامة! فهم في تعبيرهم المتقن عن معاناة الناس العادين ووصف مشاعرهم وأحاسيسهم، أو حتى كتابتهم عن معاناتهم الفردية الخاصة، يكونون قد أسهموا في صياغة الصورة الجمالية لروح الشعب، وطبيعة البلاد.
وكثيرا ما يكون انسجام المبدعين وتآلفهم وتعاونهم انعكاسا لوحدة شعبهم وتآلفه وإيمانه بالمصير المشترك لمكوناته! ذلك طبعا لا ينفي حقهم في الاختلاف والجدل والصراع حول مختلف القضايا والأفكار والاتجاهات والأساليب، ولا ينفي حقهم في التنافس بما يشبه المباراة بروح رياضية على التفوق والوصول لأعلى المراتب في المنجز الفكري والجمالي!
لكن تمزق صفوف المبدعين وتشتتهم واحترابهم خاصة إذا أخذ لغة منحطة مبتذلة يعكس وبشكل جلي وواضح تمزق روح شعبهم واحتراب فصائله وطبقاته ومكوناته! وقد يحمل نذرا أعمق: خنادق متقابلة متقاتلة لصراعات دموية وربما حروبا أهلية معلنة أو غير معلنة، تستمر لفترات طويلة تقتضيها عادة التغيرات البطيئة للعقول والضمائر حتى تصنع ثقافتها الأخرى البديلة، وهذا ما يلتهم حياة أجيال وأجيال!
تقصي تجارب الشعوب في هذا الجانب يضعنا أمام مفارقات كثيرا ما تدعوا لمزيد من التمحيص! فالمبدعون من شعراء وروائيين ورسامين وموسيقيين هم الأكثر حساسية إزاء التوترات العامة؛ لذا فإن ردود أفعالهم كثيرا ما تأتي سريعة ومنفعلة وأحيانا قاسية، وكثيرا ما تسبق هياج الجماهير، بل تكون في كثير من الأحيان هي المؤججة له!
لذا هم مطالبون قبل غيرهم بالتريث وإعمال العقل وبذل المزيد من الحرص والتأمل قبل إطلاق دعواتهم أو نصوصهم ليتوثقوا منها بأنفسهم، إن كانت يائسة محبطة دون مبررات، أو مرتكزات قاهرة، أو مشبعة بالآمال القائمة على الأوهام!
وإذا نظرنا للعراق خلال تاريخه الحديث نجد أن الفترات التي تقارب فيها الأدباء والكتاب، وأداروا خلافاتهم بروح حضارية ومستويات راقية، كانت فترات انسجام وسلم أهلي ومستوى من الوئام والود العام، ونفحات من الحرية والديمقراطية وإن كان محدودة، وذات مدى نسبي!
والفترات التي تشتتوا فيها وتباعدت مواقعهم وتفكك فيها اتحادهم هي فترات قمع واحتراب وتمزق شعبي ووطني وانحلال سياسي عام مهدت لانهيارات أعمق تجلت في حروب وغزوات وحصارات وانهيارات كبرى نحن اليوم في حقبة مدلهمة منها لا ندري ماذا سيتلوها من حقب!
ومع ذلك يظل ثمة أمل في روح الإبداع والثقافة لتلعب دورها الضروري! وأعتقد إن من الممكن القول دون مجازفة، أن الإصرار على إطلاق الكلمة واللوحة والموسيقى والصورة وبأكبر قدر من الإلهام والعناية، سيقلص دور الرصاصة والسلاح كبيره وصغيره، ويحد من الأصوات الداعية للتشرذم والاصطفاف على أسس طائفية أو قومية!
لقد ظل الألمان يصارعون تاريخهم المثقل بأوزار الحروب غير المجدية حتى وصلوا إلى مآلهم السعيد الحالي وهم يتداولون كلمة أطلقها مبدع تقول: الأمل آخر شيئ يموت.
التعليقات