في الوقت الذي& يتحول فيه العالم الحديث إلى قرية مترابطة صغيرة بسبب فاعلية العولمة واقنتشار التكنولوجيا الحديثة وشبكات التواصل والتحالفات السياسية والاقتصادية عبر العالم ومحاولة البشرية أخذ الدروس والعظات من تجارب تاريخية سابقة ومؤلمة من حروب وصراعات-&يرى المراقب والراصد&أنه مازال&هناك&الكثير والمزيد&مما ينبغي فعله&للتخلص من رواسب الصور النمطية ومظاهرها عن الآخرين كالشعوب والمجتمعات والأديان والأفراد والبلدان...&ومن هذه الظواهر&ظواهر&الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية ومعاداة الأجانب&واحتقار بعض الشعوب&باعتبارها عوائق بارزة في طريق تحقيق السلم الاجتماعي ثم الدولي.

إن عالمنا المعاصر لم يعد& كما كان قبل قرنين من الزمان،&بل لم يعد أبدا كما كان قبل عقدين ماضيين.. يكاد كل شيء يتغير ويتطور في كل حين.&والبشرية تسعى دائبة على الدوام&على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والعلمي&لتحقيق حياة أفضل. ودول العالم وحكوماته وشعوبه يقترب بعضها من بعض سياسيا واقتصاديا وتقنيا وثقافيا بل وجسديا... ، حتى لقد أصبحت التقنية الحديثة تجمعنا الآن معا بطريقة غير مسبوقة في التاريخ البشري، ولم يعد بمقدور إنسان أن يعيش وحيدا أو منعزلا عن الآخرين. وكذلك الأمر لأي مجموعة بشرية صغيرة كانت أم كبيرة، إذ&لا يمكن لها أن تعيش متقوقعة منغلقة مكتفية بذاتها مستغنية عن غيرها.

لقد تحقق ما قيل&خلال خمسينيات القرن الماضي&من أن&العالم سيكون قرية صغيرة،&وهذا ما يحدث ونعيشه الآن.&والنتيجة الإيجابية لهذه التقنيات على مستوى السلم الاجتماعي وفي المجتمعات هي&أن يكون لدينا المزيد من الفرص&للتعارف والتعاون، والمزيد من الفرص للحصول على المعرفة&من كل أحدٍ، وما من شك أن&الإسلاموفوبيا وهي&كراهية الإسلام ورهابه أو معاداة السامية،&أو معاداة الأجانب&وغيرها من الظواهر السلبية المَرَضية الهدامة، تتعارض مع&النتائج الإيجابية المأمولة التي يسعى إليها عقلاء&البشرية.

والخوف من الإسلام إحدى الظواهر التي نحضرها ونشهدها في هذه الأيام&خاصة في العالم الغربي وهي ظاهرة لم تبدأ منذ سنوات بل لها جذور ضاربة في التاريخ ومنذ عدة قرون، ولكن في واقعنا المعاصر، في الثلاثين سنة الماضية&ومع&ظهور أسباب جديدة منها:&انهيار الاتحاد السوفييتي&،وحدوث الهجمات الإرهابية ونزوح المهاجرين العرب والمسلمين إلى أوروبا وإسلام آلاف من الأوروبيين وظهور اليمين الأوروبي المتطرف ونشاط الإعلام المشيطن للإسلام...&بتنا نراها&ونلحظها&أكثر فأكثر.&وما يهمني&بصفتي مسلماً ويهم&الآخرين&هنا&هو ما نريده ونطمح إليه من تعايش في هذا العالم وفق مبادئ المساواة والتعاون.

يقول الله تعالى في محكم تنزيله: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير".&وكما هو ظاهر من الآية الكريمة فإن&علة تنوع الشعوب وتعدد القبائل&هي قيمة&"التعارف"&وما ينتج عنها&من مقابلة والتقاء وتعاون&وتبادل المعلومات والخبرات والمنافع&وليست علة التنوع هي التقاتل أو &التفاخر أو البغي أو كراهية الآخر...&وقد أكّد نبينا الكريم&صلى الله عليه وسلم&في خطبة&حجة&الوداع وهي من آخر خطبه حين قال&"لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى".&وهو&بهذا النص يتبع القرآن الكريم&فيحدد معيار التفريق الوحيد بين البشر&وأنه قائم&على أساس "التقوى".. تقوى الله وهي تعني&الخوف من الله&وتطبيق ذلك من خلال&الامتناع عن الشر والفحش وفعل الخيرات والأعمال الصالحة واجتناب الشرور والآثام، فالناس&كلهم سواسية إلا فيما يفعلون من خير وشر سواء لأنفسهم أو لغيرهم، سواء أكان هذا إنسانا&واحداً&أم&أكثر بل حتى الحيوانات والطبيعة&نفسها&مشمولتان بهذا الخير...&وهذه الرسالة لا يختص بها دين الإسلام&وحده&بل هي روح كل الأديان.&التي أرسلها الله لأن الله تعالى لا يفرق بين الناس في الخطاب الشرعي فهو شامل للجميع، وحتى الأديان الوضعية عززت هذه القيمة وهي حب الخير والبعد عن الشر مع الجميع.

ومع أن&ظواهر&الإسلاموفوبيا&والعنصرية ومعاداة&الآخر فقط لأنه مختلفوما شابههما من ظواهر العنصرية والطائفية المقيتة هي ظواهر محدودة من حيث النطاق الجغرافي والزمني، ومتقلبة بين مد وجذر ورواج وانحسار، إلا أنها تظل مقلقة لقادة المجتمع&وصانعي القرار&لما ينتج عنها من خلل أمني في مجتمعاتنا الإنسانية، وهو خلل يهدد كل مظاهر الحياة الأخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وينبغي أن&نتصدى لهذه الظواهر حالا فور ظهورها ونكافحها، وأن نعمل جاهدين لمنع ظهورها بالأساس من خلال التوعية والتربية والتحذير من العواقب بكل الوسائل الممكنة والمتاحة وبكل الاحتمالات.

ومن الأمثلة التي يتذكرها المرء بأسى ماحدث&من اضطهاد أيام الاستعباد في أفريقيا وما يحدث من&احتقار&للمنبوذين في الهند&على أساس ديني، وما يحدث لأقلية الروهينقيا اليوم تحت سمع العالم وبصره في ميانمار&على أساس عنصري وديني ...ويكفي أن أذكر هنا أنه&في القرن التاسع عشر، ومع بدء ظهور ورواج&مايسمى تاريخياً المسألة اليهودية راجت معها مشاعر في معاداة اليهود وبرزت ظاهرة&معاداة السامية في أوروبا،&ولميقف أحد&من المصلحين الاجتماعيين&–&حسب علمي-&ضد ذلك لظروف تتعلق بالمناخ السياسي والفكري حينذاك، فأدى ذلك إلى ما نعرفه جميعا&من حوادث&في الثلاثينات والأربعينات في ذروة العداء والاضطهاد&الطائفي&عندما حدثت الهولوكوست.&وكل ما يأمله العاقل اليوم هو أن تستفيد إسرائيل نفسها من هذه الدروس في التعامل مع الفلسطينيين .&

واليوم نحن أمام عودة لعجلة التاريخ وتكرار مطابق لما كان سائدا من عدائية، ولكن باتجاه الإسلام والمسلمين.&ولا يمكن&لكل مصلحٍ أو محبٍّ للخير&أن&يقف مكتوف الأيدي دون مقاومة&ودحض لمثل هذا الفكر&بعد أن رأينا كل تلك الآثار والنتائج الكارثية التي ستظل&نقطة سوداء&في جبين الإنسانية.

أعتقد أن مستقبل أوروبا والعالم كله في خطر حقيقي إذا بقينا أو بقي العالم صامتا متفرجا إزاء الطائفية أو العنصرية أو الإسلاموفوبيا.. هذه الحركات أو التوجهات المعادية ضد بعض الناس أو الدول في العالم لا ينبغي أن نكتفي بالحديث عنها أو رصدها ودراستها وإحصائها؛&بل&في الحقيقة يجب إيقافها&وإنهاؤها&عبر معالجتها&والتعامل معها&بما يناسبه من إجراءات وأدوات وفق استراتيجية محكمة تتعلق بالتربية والتعليم والخدمة الاجتماعية والسياسة والإرشاد الديني.

للإسلاموفوبيا مسوغاتها في عقول من يؤمن بها&من&خلال&تصرفات أو سلوكيات&خاطئة لعددٍ&محدودٍ&جداً&من&المسلمين، ولكن&أن يتحول هذا النقد إلى ظاهرة اجتماعية&فهو أمر&مرجعه&الأساسي النظرة السطحية الضيقة الأفق أو التحريض المسبق ضد الإسلام&والصور النمطية الجاهزة. أما تلك التصرفات والسلوكيات المسيئة والمشينة فسببها&الجهل وسوء الفهم وسوء التأويل للإسلام من قبل مرتكبيها، بالإضافة إلى عدد من الأسباب الأخرى ومعظمها اقتصادية، ولا يتحملها الإسلام نفسه&. والمسلمون&أنفسهم&يعانون أكثر من غيرهم&من&سوء الفهم وسوء التأويل الذي يقوم به&بعضهم، كما يعانون مما يتعرضون له من تهجم وإساءة للسمعة عبر وسائل الإعلام التي تدعم هذا الفهم الخاطئ للإسلام، وهو&أمر يزيدنا قلقاً، لأنه يعاكس ويضاد الجهود&العظيمة المبذولة من قبل مؤسسات ومراكز عديدة&لإقامة جسور للقاء والحوار ينهض&به&الطيبون في هذا العالم، كما تقوم بها العديد من المنظمات العالمية والدولية حرصا على مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.&ومع الأسف&يقوم أشخاص آخرون وجهات أخرى&في الوقت نفسه&بتقويض هذه الجهود وقتل كل فرصة للتقدم في هذا المجال بدافع من سوء الفهم أحيانا أو سوء النية أحيانا أخرى.

تشير الدراسات إلى&ازدياد جرائم الكراهية في مجتمع كالمجتمع البريطاني على سبيل المثال بنسبة 40 %&خلال&العام 2017 الماضي. وهذا أمر مقلق لأنه يظهر لنا حقيقة الوضع في هذا المجتمع وإلى أين يسير، وفي الوقت نفسه&يوضح لنا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقالجميع&لمواجهة هذا الأمر؛ خصوصا من بيده مقاليد الأمور والسلطة، والشخصيات والجهات المؤثرة اجتماعيا وسياسيا ودينيا وإعلاميا واقتصاديا، حيث هناك الكثير من الأشياء التي يمكن، بل يجب، القيام بها لعكس هذه الظاهرة فضلا عن الحد منها.

في ظل الوضع الحالي، اقترح بناء ثقافة مشتركة ووعي مشترك بين جميع المجتمعات تناهض الإسلاموفوبيا&وأي نوع من الكراهية التي تستهدف أي شخص أو جماعة&بصور نمطيةٍ&، بحيث نظهر الوجه الجقيقي للأديان القائم على التسامح والتعاون، كما يجب على كل قادة الإيمان في كل الأديان العمل على تثقيف مجتمعاتهم ورعاياهم بأخطار هذه الظواهر المدمرة وما ينتج عنها ويترتب عليها من اضطرابات ومشكلات العالم في غنى عنها اليوم وغدا وأبدا.

إن التاريخ قد يكون معلما جيدا إذا تعلمنا واستخلصنا العبر منه حقاً، ولكنه&قد يكون وحشا كبيرا ومجنونا قاتلا إذا حاولنا استحضاره كما هو أو تكراره بكل سوءاته أو العيش ضمن إساره وبموجب&مواقفه&وميراثه المُثقل بصفحات سوداء لا مصلحة لأحد في استدعائها؛ بل المصلحة&في&تجاوزها والتسامح حيالها ونسيانها&والتعلم منها، ولتننظر إلى ما فعلته الطائفية في العراق اليوم وحسبنا ذلك.&

كما أننا بصفتنا مسلمين في&حاجة إلى توضيح سوء الفهم حول الإسلام نفسه،&من خلال&تعزيز المحتوى الإيجابي&للمواد العلمية والأدبية وشبكة الإنترنت&ورفده بالتحديثات المتواصلة لمتابعة كل المستجدات على الساحة العالمية، والوقوف ضد المحتوى السلبي ومناهضته وتوضيح كل المواقف الملتبسة والأحكام الغائبة. وعلى مؤسسات المجتمع المختلفة والمتخصصة المبادرة&بالوصول إلى أولئك الذين&ينشرون الكراهية ويستهدفون الناس وتلك المنصات التي تساهم في ذلك وتعزز أضرارها&لإضعاف تأثيرها من خلال طرح الصورة الحقيقية الإيجابية لهذا الدين الحنيف.

ومن الأهمية بمكان التركيز على استهداف الشباب والنشء ببرامج التوعية وحملات التعريف والفعاليات المشتركة لأنهم الهدف الرئيس الذي تستهدفه حملات الكراهية المنظمة، فيجب حماية هذا الهدف&وتحصينه&، بل يجب تسليحه بالفكر المنفتح التسامحي، بالإضافة إلى تلقينه دينه على الوجه الصحيح بالفهم الصحيح المعتمَد والمتداوَل والمتوارَث عبر عشرات الأجيال وكل الحقب المضيئة.

وعلى مؤسسات الدولة المختلفة، والأمنية منها، مسؤولية كبيرة تجاه هذه الأزمة المجتمعية التي تحتاج لتضافر كل الجهود وتسخير كل الإمكانيات لتحصين المجتمع وتعزيز وعيه وزيادة معرفته، وفيما قد يستغل بعض الساسة القضايا العرقية أو الطائفية لأغراض انتخابية أو لتحقيق طموحات شخصية على حساب أمن&بلد ما&ووحدته ومستقبله، على رجال الدين والقادة الروحيين إعاقة هذه الممارسات عبر التركيز على قيم التسامح والتعاون والتكامل لتحصين المجتمع وتقويته في مواجهة أي هزة قد تودي باستقراره وتعيق نموّه وتطوره.

وعلى&كل دولة&بمؤسساتها الحكومية والمجتمعية أن تعنى بأصوات التسامح، وتمنحها الفرصة للبروز وأخذ دورها الطبيعي في بناء الوعي المجتمعي الفردي والجماعي، وخاصة عند استهداف العقول الغضة، عقول الشباب.&إنهم في الحقيقة المستقبل الذي ينبغي العمل على تأسيسه وتحصينه لغد أفضل، وذلك لن يتم بدون جيل واع مدرك مثقف يُعدّه ويقدمه خبراء وطنيون ذوو خبرة ذاتية وخبرة تاريخية.

إنها مهمة لا تحتمل الفشل، مهمة بناء مجتمع متسامح بدون كراهية، مجتمع متكافل بدون تمييز&عرقي أو عنصري من أي نوع، مجتمع متكامل ذاتيا بكل أطيافه وطبقاته وشرائحه ومتكامل مع المجتمعات الأخرى بكل تنوعاتها وتبايناتها ومحدداتها الجغرافية والتاريخية والثقافية، لأن الفشل نتيجته خطيرة جدا، خصوصا لمن هم في مركب واحد وثمة من يعمل على خرقه وإغراقه فيما البقية يتفرجون أو يكتفون بإطلاق صفارات الإنذار دون عمل شيء يصلح الخرق ويمنع المخرب من مواصلة التخريب، وحسب&الجميع في عرض البحر&ما يواجهونه من&كوارثه الطبيعية&ولا تنقصهم كوارث ينحتونها بأيديهم ويجْنون بها على أنفسهم.