من يدخل بغداد هذه الأيام يجدها غابة صور ملونة واعمدة حديدية ولافتات تحجب وراءها النخيل والشجر والبيوت الفخمة لتطل منها وجوه رجال ونساء رشحوا أنفسهم للبرلمان المقبل وقد اعتنى المصورون في تزويقهم بشتى الألوان، كما اعتنوا هم بتزويق شعاراتهم ووعودهم الانتخابية!

يلاحظ ازدياد وجوه نساء شابات جميلات بينهم بزي غير تقليدي متزمت كذي قبل، سافرات أو بربطة خفيفة حول الرأس ما ينم عن تململهن مما ألقاه المتأسلمون عليهن من حجاب أو خطاب! 

أناس كثر يتساءلون كم تكلف هذه التظاهرة الورقية الملونة الهائلة على مدى البلاد من أموال وجهود؟ ومن سيتحملها؟وماذا سيحصد الناس من هذا الزرع العجيب؟ ثم ترى متسولين وفتيان وفتيات يبيعون الماء البارد وعلب المناديل يتجولون بينها وكأنهم يقدمون إجابات باكية قاسية!

قبل أيام هبت رياح شديدة وأنهال عليها وابل كبير من المطر، أعتقد بعضهم أنه غضب الله على من جاء منهم بنية سيئة، فراحوا يستطلعون عن الصور التي إنكفأت على الأرض!

ولكن مهما بدت هذه الغابة شائكة متداخلة مكررة مستهلكة؛إلا أنها تلقي على كاهل العراقيين مسؤولية تأملها ومحاولة فهمها كقدر حزين لاحقهم لأزمنة طويلة، ويتجلى اليوم بهذه الألوان البراقة والمضحكة أحيانا!

لدورات سابقة مريرة، لم تسفر هذه الغابة ألا عن حطب، أحرق البلاد والعباد دون أن يحترق هو ، بل ظل دائم الاشتعال، وكأنه جهنم كلما ألقى فيها تظل تصرخ"هل من مزيد "!

لكنها هذه المرة تلوح كنصيب يفزع الناس بآمالهم إليه حتى ولو ليس لهم من ثمره إلا القليل القليل!

هي غابة تعترض الطريق العام الذي لا يلوح في الأفق الآن طريق غيره؛ لذا لا مناص من مقاربتها ومحاولة جعلها محطة إلى زمن آخر! 

ولكي لا يظلم كل الشجر وتحرق الغابة ، ينبغي تفحصها فهناك بينها شجر مثمر ، وشجر عقيم، شجر حلو وشجر مر، شجر نخره الدود والفساد، وشجر صحيح معافى، ومن خبر آلام هذا الزمن الرديء عليه أن يضع آماله على الشجر الطيب منها! تلك هي الغربلة العادلة والخيار المتزن! والحكمة آخر ملاذ للفقراء والمعذبين!

وأن تعترض الطريق غابة خير من أن تعترضه صحراء قاحلة كما في الحقب السابقة!

ومن الطبيعي أن تواجه هذه الغابة بمن سيأمل بثمرهاويلقي رحاله في ظلالها، وبمن سيعلن يأسه منها ويشيح عنها بعيدا! 

غالبية العراقيين ينشدون التغيير، والواقع الماثل صلد رغم هشاشته الخارجية ومن العبث الحديث عن تغيير بالقوة والعنف، أو انتظار مخلص خارجي أوغيبي! لا حل سوى بالإمتثال لقاعدة تداول السلطة وفق الدستور بما يحمل من عيوب ونواقص، فقد يفضي التغيير لإصلاحه لاحقا!

الجلوس بعيدا عن صندوق الاقتراع والاستسلام لخيبة الأمل حالة ستجعل التغيير بعيد المنال، والألمان الذين عاشوا فترات صعبة كحالنا قالوا(الأمل آخر شيء يموت ).

المزاج العام للمتوجهين للانتخابات يشير إلى أنهم يرونها استفاقة من عقد ونصف من الطائفية والإسلام السياسي لم ينتج سوى الفساد والإرهاب وانعدام الخدمات والشقاء الذي شمل الجميع إلا من ملأ خزائنه من المال الحرام. وهم يعدون الساعات والدقائق للوصول إلى صندوق الاقتراع، وعبره إلى عهد يتصدى للفساد والمظالم والتخلف، وثمة شعور عميق لدى أغلبية العراقيين الآن بضرورة نبذ الطائفية وتصفية آثارها، بل ثمة من يدعوا لتشريع قانون يجعلها جريمة مخلة بالشرف!

هم يعقدون الآمال عليها أن تكون انعطافة تاريخية للعراق وإن الرجال والنساء الذين ينبثقون عنها سيحققونالتغيير المنشود ويبنون الدولة المدنية الديمقراطية الجديدة.

لكن آخرين يرون الوجوه المطلة عليهم اليوم جحافل طامعين جشعين سيواصلون نهج اغتصاب الدولة والشعب وانتهاك العدالة والمال العام ، وارتكاب الفواحش!

لذا هم لن يتعبوا أنفسهم في الذهاب إلى صندوق الاقتراع لإن القرار في من سيحكم العراق هو في صندوق آخر ، يسمونه "الصندوق الأسود" ،الذي هو تحت بحر متلاطم ، أشبه بكهف السحرة والمردة والمشعوذين، زاخر بالأشباح الدولية والمخابراتية المسلحة بالمال والبنادق والقدرة على فرض ممثلها على كرسي الحكم بالضد من إرادة الشعب!

وثمة من يقولها بعبارة صريحة أنه صندوق مخصص لأمريكا وإيران، وثمة من يضيف لهما بريطانيا والسعودية وتركيا وقطر ودول الخليج الأخرى!

"ما جدوى أن نذهب إلى الإنتخاب؟ ألم يفز أياد علاوي على المالكي بنائبين ثم أعطيت للمالكي لأن أوباما أراد استرضاء إيران لتوقع الاتفاق النووي؟ ألم يتخل علاوي عنا وعن اصواتنا وهي أمانة في عنقه؟"

هذا ما سمعته من أحد المثقفين! 

لذلك لا يسعك إلا أن تتصور أن هناك صندوقين سيواجهما الناخب العراقي: الأول هو الذي سيضعونه في مراكز الانتخابات في المدن والأرياف، والثاني هو المسكوت عنه والمدلس عليه، والذي لايراه أحد ولا يعرف مكانه تماما لكنه سيكون هو الحاسم وله الكلمة الفصل! 

ظلال الماضي، وتجارب الدورات السابقة الأليمة، تجعل الكثيرين يفكرون بان الصندوق الأول لا دور له سوى الأداء الشكلي أو الصوري لمنح من سيتولون الحكم صفة الشرعية، فيتساءلون لمن ستكون الغلبة في الصندوقين معا؟ فيكون الرجل المطلوب محليا ودوليا. 

كثيرون يتحدثون وفي أذهانهم الصندق الأسود البعيد الخفي يعولون عليه خيرا، أو يتوجسون منه شرا!

فالذين لا زالوا يعتقدون أن أمريكا تريد خيرا للعراق يأملونسرا أو علنا أنها هي من سيضع الورقة الحاسمة في الصندوق الثاني وتـأتي بحكام جدد يحدثون التغيير المنشود! 

ومن يرونها أصل البلاء والشرور يقولون أنها ستفرز أوراق الصندوق الأسود وتأتي بحكام حسب مقاساتها ومصالحها!

وستسخر الإنتخابات بما يخدم صراعها مع إيران والدول الأخرى في المنطقة!

وفي الوقت الذي ترك السيد علي السيستاني الحرية للناس في أن ينتخبوا أو لا ينتخبوا ، لكنه حذر أيضا من انتخاب الفاسدين والفاشلين، ودعى لرفض التدخل الخارجي!

رجل الدين البارز السيد مقتدى الصدر يتجه للانتخابات بائتلاف كبير يضم إضافة لفقراء الشيعة الملتفين حوله أطيافا كثيرة من اللبراليين والشيوعيين والمدنيين مسيرا التظاهرات والحشود الجماهيرية، مطالبا بانتقال نوعي في الوضع العراقي.

رجل الدين الخالصي دعى لمقاطعة الانتخابات قائلا، أنها لا جدوى منها، فالنتائج معدة سلفا في السفارة الأمريكية!

ثمة رجل دين شيعي آخر دعى لمقاطعة الانتخابات أيضا لأنها في رأيه أعدت من أمريكا واسرائيل لخلع الشيعة من الحكم والإتيان بالسنة والكرد بدعوى أن الحكام الشيعة فقط هم الفاسدون وليس بينهم كرد وسنة فاسدون أيضا!

 

رجال من جمهرة ساحة الاعتصام في الأنبار ومن متدينين سنة محدودين يرفعون عقيرتهم من عمان وأربيل بفتاوى تقضي بفساد الانتخابات والدعوة لمقاطعتها دون أن يقدموا مراجعة لأدوارهم في قيام داعش ودمار مدنهم وتهجير الملايين من أهلها!

بقايا الدواعش وحثالاتهم يهددون بمهاجمة مراكز الاقتراع وتكفير من يشارك بها في الترشح والإنتخاب بوصفها (بدعة ضلال تجري برعاية الكفار) لكن سكان المدن التي دمرتها داعش وأضحوا نازحين دون رعاية كافية يبذلون جهودا مضنية للذهاب إلى صندوق الاقتراع تحديا لهم واصراراعلى البناء ومواصلة الحياة من جديد!

 

هذه الحيرة والتردد في الاختيار او طيه واهماله حقيقة قاسية لا يمكن تجاهلها ومن الضروري حسمها لصالح الصندوق المحلي. كما لا ينبغي أيضا التقليل من خطورة عملية الاصطفاف والتراتب التي ستلي ظهور نتائج الإنتخابات، فتلك معركة صعبة جدا ، ولا تقل تعقيدا عن سابقتها، فمن سيقف مع من؟ ومن سيتخلى عن من؟ وكم صفقة بيع وشراء ستتم هنا أو هناك؟ انها حلقة خروج المولود في عملية قيصرية ومن أم مريضة منهكة! 

 

لذا فإن الإقبال على الإنتخابات بوعي ونباهة ،وتصفية غابة الصور الملونة بخلاصة من الوجوه الطيبة، عبر اختيار دقيق يتوخى النزاهة والسير النظيفة ،والكفاءة ، وتشديد اليقظة لمنع التزوير او التخريب والضغوط غير المشروعة يعزز الصندوق الأول ويمنحه حصانة تحد من سطوة الصندق الثاني وربما تلغيه تماما بما يحقق استقلال العراق ويعزز سيادته!