توحي الفلسفة للبعض، وربما للكثيرين أن الذي مارسها نادرا ما يرتكب خطأ.فإن فعل ذلك يكون الخطأ بسيطا يمكن جبره. لكن تاريخ الفلسفة يقدم لنا أدلة جلية وواضحة تؤكد أن البعض من كبار الفلاسفة لم يكونوا معصومين من الخطأ. بل أنهم ارتكبوا أخطاء فادحة.خصوصا في المجال السياسي.وأفلاطون أب الفلسفة ومعلم الفلاسفة كان أولهم. فبعد اعدام سقراط الذي كان "كارثة" بالنسبة له،طاف أفلاطون في العديد من المدن الاغريقيّة،وزار جنوب ايطاليا ليرتبط بعلاقة وثيقة مع ديون ،صهر الملك ديونسيوس الكبير.غير أن هذا الملك الطاغية سرعان ما طرده متهماإياه بالمشاركة مع ديون في التآمر ضده.وبعد وفاة ديونسيوس الكبير ،اعتلى ابنه الصغير العرش ،فعاد افلاطون ثانية الى جنوب ايطاليا بطلب من صديقه ديون. ساعيا الى توجيه الحاكم الجديد نحو "فعل الخير" ،غير أنه فشل مرة أخرى فعاد الى أثينا مُوجع القلب.مع ذلك سافر للمرة الثالثة الى جنوب ايطاليا محاولا اصلاح ذات البين بين صديقه ديون وديونسيوس الصغير غير أنه وجد البلاد غارقة في حرب أهلية مُدمّرة أجبرته على العودة الى أثينا ليتذوق مرة أخرى مرارة الفشل والخيبة .
وفي مؤلفه الشهير"الجمهوريّة" الذي يعتبره جلّ الفلاسفة الكتاب الأكثر طموحا لاستخدام النظريّة . سعى إلى أن يفكر في تربية "ملوكه الفلاسفة"الذين من المحتمل أن يصبحوا حكاما .وقد فعل ذلك مدفوعا بالخيبات التي وَسَمتْ جميع تجاربه السياسية.ومن"جمهوريته"،أطرد أفلاطون الشعراء باعتبارهم متقيّدين دائما بظواهر الأشياء،وبالتالي عاجزين عن النظر الى ما وراءها.وفي كتابه "المجتمع المفتوح"الذي صدر في فترة تصاعد الحركة الفاشية في ايطاليا،والنازية في المانيا في الثلاثينات من القرن الماضي،،اعتبرالمفكر الكبير كارل بوبر أن أفلاطون هو أول فيلسوف أسس للنظم الشموليه والرجعية بسبب إقصائه للشعراء من "جمهوريته".
أما المفكر جورج شتاينار فقد اعتبر أن أفلاطون هو أول فيلسوف سعى إلى أن يكون له نفوذ سياسيّ للتحرر من برجه العاجي. وربّما لهذا السبب قبل أن يتقرّب من الحكام الطغاة ،غاضّا الطرف عن جرائمهم ومظالمهم، ومقدما تبريرات وبراهين فلسفية لإقناع الناس بصواب مسعاه،وصحّة نظريته.
ولعل هايدغر حاول هو أيضا أن يكون أفلاطون عصره بهدف الإشعاع خارج المجال الجامعيّ الضيّق.لذلك ارتمى في أحضان النازية معتبرا إيّاها "إنطلاقة"الى مستقبل أفضل،و"ولادة جديدة"للألمانيا التي كانت آنذاك تئنّ تحت وطأة نكبة الحرب الكونية الأولى. وعندما علم كارل ياسبرس بأن صديقه هايدغر أصبح من أنصار النازية ،إندهش ،وصاح فيه:”كيف يمكن وأنت صاحب العقل الجبّار أن يحكم ألمانيا هذا الرجل الخشن؟(يقصد هيتلر).فرد عليه هايدغر قائلا:”دعك من الثقافة ….انظر الى يديه كم هما ناعمتان!”.
وقد يكون هدف هايدغر من خلال مبايعته للنازية في أوّل صعودها هو الطموح إلى أن ياعب دورا سياسيا في فترة احتدت فيه الأزمات. إلاّ أن السلطات النازية كانت مرتابة منه .وفي تقرير لاجهزة المخابرات ،نقرأ ما يلي:”هايدغر يظهر تحمسا للنازية لكنه ليس صالحا لها،ولا يمكن أن يفيدها في شيء!”.والمؤكد أنه-أي هايدغر-فقد أمله في النازية فترة وجيزة لا تتجاوز التسعة أشهر.غير أنه لم يتحلى بالشجاعة لانتقادها علنا.وحتى بعد إنهيارها،لم يشأ أن يتدخل في الجدل الذي إشتعل بخصوص إنتمائه للنازية.
ولم تكن مسيرة الفرنسي جان بول سارتر خالية من أخطاء فادحة في المجال السياسي تحديدا. فقد أظهر تعاطفا نحو ما كان يسمى بالإتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة، غاضا الطرف عن الجرائم التي كانت ترتكبها النظم الشيوعية ، وخلال ثورة الطلبة في ربيع عام 1968، ساند بقوة التيارت الماوية(نسبة إلى الزعيم الصيني ماتسي تونغ). بل أنه لم يتردد في توزيع النشرية الدعائية الخاصة بها في المعامل ، وفي الشوارع.
ويشير جورج شتاينار أنه التقى في الصين بمثقفين وجامعيين كانوا يعانون من تشوهات وعاهات جسدية بسبب ما تعرضوا له من تعذيب خلال ما يسمى ب"الثورة الثقافية" التي أطلقها ماوتسي تونغ.وكانوا قد وجهوا في ذلك الوقت رسالة الى سارتر يطلبون منه التدخل لدى السلطات الشيوعية لكي تكف عن المظالم المسلطة عليهم غير أنه لم يفعل ذلك.بل أنه اعتبر التقارير والشهادات التي أدانت فظائع "الثورة الثقافية " ومجازرها مزورة ،وملفقة ،بل ومن وحي المخابرات الأمريكية!
وكانت سنوات سارتر الأخيرة صعبة وقاسية. فالرجل الذي كان يملأ المشهد الثقافي الفرنسيّ والعالميّ، ويشغل البشريّة جمعاء بمواقفه، وبآرائه الشجاعة والجريئة، وبكتبه في مختلف المجالات، بات واهن القوى، بالكاد يسمع، وبالكاد يرى، وبالكاد يتحرّك. لا شيئ من حوله غير أشباح ماضيه الموسوم بالمعارك، وبالسجالات الحامية.وجلّ الأصدقاء، والمعجبين به أهملوه، تاركينه شبه وحيد في عزلته القاتمة.واحد فقط قبل إن يظلّ بجانبه، مرافقا إيّاه مثل ظلّه.،ألا وهو اليهودي بيني ليفي الذي كان يساريّا متطرّفا، ثمّ تحوّل بين عشيّة وضحاها إلى رجل دين متطرف مفتون بالتوراة وبأساطير اليهود القديمة. تحت تأثيره، تنكّر سارتر الذي خاض على مدى نصف قرن "حرب الشوارع الفكريّة" لأفكاره القديمة، وبات مغرما باللاهوت اليهودي. وقد أغاضت تلك التحوّلات العجيبة، والغريبة عن مسيرة رفيق حياتها، سيمون دي بوفوار.وفي "موكب الوداعات" كتبت تقول:”عجوزا(تقصد سارتر)،مُهَدَّدا في جسده،نصف أعمى، كان المستقبل قد أصبح مسدودا أمامه. لذا لجأ إلى "حثالة" كان مناضلا، وفيلسوفا معتقدا أنه "المثقّف الجديد" الذي يمكن أن يحقّق ما كان يحلم به، أو ما كان يمكن أن يساهم في وجوده"... ويوم رحيل سارتر، صرح صديقه اللدود رايمون آرون قائلا:” لقد جسد سارتر مأساة أخلاقي ضائع في غابة السياسة المترامية الأطراف".
ولم يكن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو معصوما من الخطأ هو أيضا. ولعل تحمسه للثورة الإيرانية، وإعجابه بالإمام الخميني كانا من أ كثر الأخطاء جسامة في مسيرته الفلسفية. فعندما اندلعت الإنتفاضات الشعبية عام 1978 أدّى فوكو زيارتين إلى طهران. الأولى كانت من 16 إلى 24 سبتمبر ،والثانية من 9إلى 15 نوفمبر من العام المذكور. وكان الهدف من الزيارتين كتابة تحقيقات عن الإنتفاضة الشعبية الإيرانية بتكليف من جريدة"كوريرا دالا سيرا" الإيطالية".وقبل سفره، أعاد فوكو قراءة العديد من المؤلفات التي تبحث في علاقة الدين بالسياسة، وفي تأثير الدين على المجتمعات كما كان الحال في المجتمعات الغربية في العصور الوسطى. كما قرأ كتاب ”مبدأ الأمل"الذي يدعو فيه الفلسوف ارنست بلوخ إلى ضرورة بعث الأمل في مجتمعات جمدتها النظم الإستبدادية، وأفقدتها القدرة على التمرد، وعلى مواجهة المظالم التي تتعرض لها. وهكذا انطلق إلى طهران وهو على قناعة بأن العالم المعاصر يعج بأفكار"تولد،وتضطرب، وتختفي، ثم تظهر من جديد لترجّ الناس والأشياء". كما أن على الأرض أفكارا "أكثر ممما يتخيلها المثقفون" . لذلك يتوجب على المثقف "النموذجي" أن يكون مواكبا لأحداث عصره،ووعالما بالأفكار الجديدة عند ولادتها لكي لا يتخذ إزاءها موقفا"أخلاقيا" مثلما كان حال سارتر، وإنما لكي يعاين مدة قوتها، وقدرتها على تحريك المجتمعات الجامدة أو المجمدة.
وخلال الزيارتين اللتين أداهما إلى طهران، التقى ميشال فوكو بكل من آية الله شاريعاتي،وآية الله بهشتي الذي كان قد تعرف عليه عندما كان يدرّس الفلسفة في جامعة هامبورغ. والإثنان أكدا له أن النزعة الدينية التي تحرك الإنتفاضات الشعبية في إيران لا تهدف إلى إقامة نظام استبداي جديد يستند إلى الدين،وإنما هي تعبير عن رفض نظام فرض على شعبه بمساعدة مطلقة من الغرب الرأسمالي نمط عيش لا يتلاءم مع تقاليده،ومع قيمه الروحية.
وبين الزيارتين، تحوّل فوكو إلى ضاحية"نوفل-لو شاتو" قرب باريس ليشاهد من بعيد الإمام الخميني جالسا تحت شجرة تفاح، مستعما إلى إيرانيين هبوا لزيارته ،والإستماع إليه.
وفي المقالات التي نشرها، تحدث فوكو في الفلاحين الذين أجبرهم الفقر على الهجرة إلى المدن الكبيرة، وعن نخبة"فاسدة وموالية للغرب" أنتجتها الثروة البترولية لتعيش مقطوعة عن هموم الشعب، وقضايا المجتمع.كما أشاد بما سماه ب" الروحانية السياسية" التي تعتمد على القيم الإسلامية بهدف النهوض بإيران ،وتخليصها من الإستبداد والظلم،وتحريرها من التعية الغربية. وبعد سقوط الشاه، وقيام الجمهورية الإسلامية بقيادة الإمام الخميني الذي ضرب كل حركات المعارضة ليقيم نظاما استبدايدا جديدا قد يكون أشد فظاعة من نظام الشاه، لم يتراجع فوكو عن مواقفه القديمة، بل حاول أن يجد لها مبررات واهية. وفي النهاية ، لاذ بالصمت، ولم يعد يتحددث أبدا عن "الروحانية السياسية".
التعليقات