يعيش العراق، نخبا وجمهور، المتاهة السياسية والفكرية في أوج تجلياتها، بين اسلام وعلمانية، اختلط فيها حابل اليسار بنابل اليمين، حتى فاضت الأيديولوجيات على بعضها، كاشفة عن مشاريع هجينة، غير واضحة الملامح ان لم تكن مشوهة، والذي عزز ذلك غياب المفكر العضوي، علمانيا كان ام دينيا، القادر على تفكيك الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإعادة تنضيدها في اطار النظرية القابلة للتطبيق، فضلا عن غياب السياسي (العلماني والإسلامي) المتمكن من تطبيق التنظيرات على ارض الواقع.
..
ينتج عن ذلك، مخاض طال انتظاره، لم يسفر الى الان، سوى عن صراع وجودي بين يسار، يُنظر اليه على انه وريث العلمانية التي ترفض هضم الشريعة في المجتمع، وبين تدين سني او شيعي، يعتبر جبهته، هي الفرقة الناجية، وحاملة لواء العقيدة، مقتنعا بان التاريخ الذي حكمه يساريون وقوميون من ثلاثينات القرن الماضي، لم ينتج غير مجتمعات مفككة، اجتماعيا واقتصاديا وسلطات دكتاتورية دموية.
...
الديمقراطية في العراق، لم تألّب الصراع الفكري بين الجبهتين، قدر المادي، فقد انزوى هذا الصراع خلف الرماد، بسبب غياب الكادر العضوي لدى الجانبين، ونشوء نخب سياسة ودينية سطحية المعرفة، ضعيفة الأدوات في التنظير والتطبيق والقيادة ليتحول الصراع بينهما الى صراع مصالحي لأجل السلطة، والمنافع المادية التي تختفي خلف ايديولوجيات زائفة، فلم يعد هناك شيوعي المبدأ، او رجل دين بالمعنى الحرفي للكلمة، عدا المرجعيات العليا، وتداخلت الخطوط الوصفية، حتى صار امرا عاديا ان نقول رجل دين علماني، والعكس صحيح، كما لم يعد مدهشا ان نسمع برجل يوصف بانه "وطني" فيما هو يحمل تحت ابطه ملف فساده، او علماني يرضخ لإرادة جهة سياسية دينية.
...
ان مصطلحات تمكنت من تصنيف هوية النخب الإسلامية لفترة طويلة من مثل، الإلهيات الرمزية، والحاكمية، والجهادية، والاصولية، وما يقابلها من اوصاف تمثل العلامة الدالة للعلماني واليساري، مثل الديمقراطية وحكم الشعب، الإلحاد، والمادية والعدالة الاجتماعية، والصراع الطبقي، و الحريات الجنسية، والتي ميزت اليساريين والعلمانيين، تتداخل اليوم بشكل يفرض عملية تصنيف جديدة، يجب ان لا تكون مدرسية او منهجية بل تلقائية يفرزها المجتمع، الذي يبدو عاجزا عن ذلك، اليوم، بسبب ماحل به من نكبات فكرية وسلوكية وعقلية.
المجتمع العراقي، على علاته، ونكباته، ولاّد للتجارب الفكرية والسياسية، ولعله يفرز اسلام يساريا، أو يسارا إسلاميا، طالما ان التدين هو صاحب الفعل المجتمعي، لتولد من رحمه، زعامة تهضم متطلبات العصر الثقافية والسياسية، وتتفاعل معها في حركة اجتماعية تنقل المجتمع من التدين التقليدي والتحزب السياسي النمطي الى أسلوب جديد ناجح يساهم في تأسيس دولة تحترم المقدسات، فضلا عن الحريات في ذات الوقت.
التعليقات