في عام 2006 تم تشكيل اول حكومة عراقية منتخبة بعد سنة من اجراء اول انتخابات برلمانية اخرجتها وانتجتها الولايات المتحدة. وكانت الادارة الامريكية مستعدة لاي ثمن في مقابل انجاح هذا الحدث السياسي في العراق. في ذلك الوقت كانت ادارة جورج دبليو بوش تعمل على انجاح مشروعين اساسيين :
الاول : مبادرة الشراكة مع دول الشرق الأوسطMiddle East Partnership Initiative ( MEPI) ، والتي أعلن الرئيس جورج بوش عنها في 6 نوفمبر 2003، وهي تُعد الإطار الأول الرئيسي للإدارة الأمريكية للعمل الدبلوماسي في مجال تشجيع التحول الديموقراطي، وقد خصصت الإدارة الأمريكية لهذه المبادرة ميزانية قيمتها 293 مليون دولار أمريكي لمدة أربع سنوات من تاريخ إعلان المبادرة.
الثاني : هو مشروع الشرق الاوسط الكبير والتي بلورتها الإدارة الأمريكية، ثم جرى الاتفاق على مضمونها في اجتماع قمة الدول الثماني في "سي ايلاند" بالولايات المتحدة في يونيو 2004.
وتقوم فكرة هذا المشروع على مساندة دول الشرق الأوسط في التقدم نحو الديموقراطية، وبناء اقتصاديات السوق. ووضعت لهذا المشروع ميزانية ضخمة تشمل دعم مشاريع البنية التحتية وتقديم منح مالية من قبل وزارة الخارجية الامريكية لبناء مؤسسات اعلامية وصحفية ومراكز بحوث لدعم عملية التحول الديمقرطي في الشرق الاوسط .
ولكي تثبت الولايات المتحدة نجاح هذه المشاريع واهميتها احتاجت الى ان يتم تطبيق النموذج الديمقراطي الامريكي في العراق بأي ثمن وباسرع وقت.
العراق في عام 2005 كان يجري فيه استفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية وهو لايزال تحت خرائب وانقاض وجثث حرب 2003 وتداعيتها الاجتماعية والانسانية والاقتصادية.
في ذلك الوقت جرت الانتخابات التي قاطعتها مكونات سياسية عديدة ، تفاقم المشاكل الامنية وخاصة مع ازدياد هجمات القاعدة في مختلف مناطق العراق التي شهدت حمامات من الدم راحت ضحيتها الاف من العراقيين ، اضافة الى انتهاكات الجيش الامريكي الذي كان وقتها لايزال في وضع القتال وما عادت القوات الامريكية تفرق بين الابرياء والمسلحين، اضافة الى ازدياد سطوة المليشيات المسلحة المدعومة من ايران والتي كانت مهمتها مزدوجة من جهه تنظيم هجمات منظمة ضد القوات الامريكية لاعطاء رسائل الى الادارة الامريكية بان ايران هي من يمسك الشارع في العراق ومن جهة اخرى ازالة الخصوم واعادة رسم ملامح النفوذ والقوة في العملية السياسية لصالح قوى معينة.
ومع هذا كان يجب ان تجرى الانتخابات في موعدها ومن عاش في ذلك الزمن في العراق ولم يفقد ذاكرته لابد له ان يتذكر كيف جرت الانتخابات وكيف تلاعبت القوى السياسية المدعومة من ايران والمدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها بنتائج الاقتراع وكيف تم وضع بذور المحاصصة الطائفية بوجهها القبيح والتي تفتحت ثمارها السامة في السنوات التالية.
والاهم من ذلك كيف كان الصراع الدامي بين الفرقاء للحصول على منصب اول رئيس للحكومة العراقية، والذي لم يحسم الى ان تدخل السفير الامريكي في وقتها زلماي خليل زادة في اجتماع ضم المرشحين لمنصب رئاسة الوزراء من الكتلتين الاكبر وقتها ، حزب الدعوة والمجلس الاعلى الاسلامي.
السيد زاده تفاخر وقتها بانه هو من اكتشف شخصية نوري المالكي الذي تسلم منصب رئاسة الحكومة العراقية لدورتين متتاليتين رغم انه لم يكن من الاسماء المطروحة وقتها. انتخابات العراق ففي نسختها الاولى تزامنت مع انهيار تفاهمات الولايات المتحدة وايران حول العراق والذي وصفها زلماي خليل زادة في كتابه المبعوث (The Invoy) ، بانها كانت الكارثة التي انهت المشروع الامريكي في العراق. ومابين عام 2005 و2006 شهد العراق اكبر حرب اهلية دموية لا مثيل لها في تاريخ العراق هذه الحرب كانت الاطار الذي نظم العلاقات السياسية بين القوى والاحزاب من جهة، وبين الشعب بكل طوائفه ومذاهبه والعملية السياسية من جهه اخرى. واستمرت احداث تلك الفترة تلقي بظلالها السوداء على فكرة العراقيين عن الديمقرطية.
من جهتها خسرت الولايات المتحدة رهانها على تقديم نموذج للديمقرطية في العراق بل وانقلبت الديمقراطية من حلم للشعوب في الشرق الاوسط الى كابوس معتم. وهذا ما اثبتته احداث الربيع العربي الذي كان من الممكن ان يحدث تاثيره المقصود لو نجحت تجربة العراق بالطريقة النموذجية ااتي رسمتها السياسة الامريكية.
في انتخابات العراق نسخة 2010 جرى ترسيخ المحاصصة الطائفية عبر سلسلة من التسويات والوعود التي قدمت مقابل تشكيل الكتلة الاكبر التي ضمنت بقاء حكومة نوري المالكي.
على اثر هذه المحاصصة تحول العنف الطائفي الى عنف الدولة الذي تاجج بطريقة دموية خطيرة من خلال حملات التصفية الجسدية والاعتقال العشوائي التي طالت محافظات وسط وغرب العراق. عنف الدولة قاد الى انتفاضة تلك المحافظات في ما عرف بحركة الاعتصامات الشعبية التي تعاملت معها الدولة بعنف اكبر وهو ما يعتبر المقدمة للاحداث التراجيدية التي قادت الى دخول وتغلغل داعش في ثلاث محافظات عراقية هي الانبار والموصل وصلاح الدين.
عادت الولايات المتحدة للتدخل في السياسة العراقية في انتخابات العراق نسخة 2014 بعد ان هدد امتداد نفوذ داعش وجود العراق. هذه المرة استغلت الادارة الامريكية جسور التفاهم مع ايران والتي رصفت بعد نجاح المباحثات الامريكية الايرانية حول الملف النووي الايراني. اثمرت هذه التفاهمات عن انتاج حكومة توافق تستطيع الولايات المتحدة ان تعتمد عليها في حربها الشرسة ضد داعش.
اليوم نحن امام نسخة الانتخابات 2018 في هذه النسخة تجتمع ملامح جميع النسخ السابقة :
- العراق خارج من الحرب ضد داعش مستنزف القوى منهار الاقتصاد مع ثلاث محافظات مدمرة بالكامل وهو وضع مشابه لوضع العراق في انتخابات 2006.
- الولايات المتحدة بادارة جديدة من عتات المحافظين الجمهوريين معظمهم كانوا شباب من مفكرين ومنضرين ومخططين في ادارة بوش الابن تحولوا اليوم الى شيوخ بخبرة واصرار عميق على تحقيق مشروع القرن الامريكي الذي هو نهضة لمشروع الشرق الاوسط الكبير ولكن باستراتيجة مختلفة اكثر تشدداً.
- ايران امام تحدي البقاء بعد انهيار تفاهماتها مع الامريكان والمجتمع الدولي حول الملف النووي الايراني وهي تواجه تهديدات بالحصار الاقتصادي والعزل وربما حتى استخدام القوة. وليس امام صانع القرار الايراني الا استخدام العراق كساحة لتعويض الخسائر او خوض الصراع مع الولايات المتحدة. وهو ذات الموقف الذي كانت عليه في عام 2006 عندما استخدمت ايران القاعدة والميليشيات في العراق لايقاع اشد الخسائر في صفوف الجيش الامريكي المتواجد في العراق في وقتها، رداً على تهديدات ادارة بوش لايران.
-الثابت الذي لايتغير هو تناحر وتنافس القوى السياسية للحصول على مكاسبها الخاصة، وتشتت اغلب التحالفات والاحزاب وتناقض منطلقاتها واهدافها. وهو ينذر بكارثة مشابهه لكارثة 2006 و2010 عندما ادى انعدام الثقة والتنافس على تشكيل الحكومة الى حرب اهلية داخلية وانهيار في منظومة الخدمات وكوارث انسانية واقتصادية لايزال العراق يأن منها الى يومنا هذا.
وعليه فاذا كنا امام نفس المقدمات فهل يعني ذلك اننا نسير في نفس الطريق الدموي الذي كانت تقودنا اليه الانتخابات السابقة ؟ هل سيشهد العراق صراعاً دمويا داخليا او خارجيا يعصف بالعراقيين لسنوات اربع قادمة ؟ وهل ان صراع القوى العظمى والاقليمية سيتصاعد ويتحول الى حرب مباشرة او بالانابة ؟ علماً انه في كلا الحالتين سيدفع العراق الجغرافي المجاور، والسياسي الضعيف ثمنه.
الديمقراطية هي ضامن استقرار البلدان وهو خيارها الحر لبناء مستقبلها. لكن في العراق الديمقراطية التي خلقتها مخططات الولايات المتحدة من رحم مشوه وغذتها ايران والقوى الاقليمية المجاورة بالسلاح والمال الفاسد، هي دائماً بداية للفوضى والعنف الاهلي وهي ترسيخ للفساد السياسي باطر قانونية ودستورية.
والاخطر من ذلك ان انتخابات العراق نسخة 2018 تاتي في هذه الفترة الحرجة التي تشهد تصاعد الصراع الامريكي الايراني، والتي سوف تقرر مخرجاتها اذا ما كان العراق سينتج حكومة ستحول العراق الى خندق يغرق فيه العابرون الى ايران ام البوابة الشرقية التي سيدخل منها المنتقمون من ايران .
هذا ما ستقرره صناديق الديمقراطية في العراق والتي سوف يظل يختلط حبر الديمقراطية مع دم العراقيين .
التعليقات