بات في حكم المؤكد ان ما تقوم به بعض الاحزاب العراقية من محاولات للنيل من نزاهة الانتخابات الاخيرة (رغم الملاحظات الكثيرة عليها)عبر كيل الاتهامات والحديث عن وقوع حالات تزوير ماهي الا سعي لتدارك انهيار شعبيتها وتخفيف وقع التراجع المخزي لعدد مؤيديها، فالملاحظ ان العملية فضحت زيف ادعاءات بعض القوى الغارقة في اوهام العظمة كما كشفت المستور واماطت اللثام عن عدد انصارها واصواتها الحقيقيين على ارض الواقع والذي جاء مخالفا تماما للفضاء الافتراضي الذي اعتمدته تلك القوى قياسا لمعرفة مدى شعبيتها.
فالوقائع ان قرئت جيدا تثبت ان هناك اسبابا موضوعية عديدة تقف وراء التراجع الملحوظ لبعض الاحزاب والكتل وليس ما تدعيه من حدوث عمليات تلاعب بالاصوات وما الى ذلك. وكان من الافضل لتلك الاحزاب ان تعترف بالاخطاء التي ارتكبتها قبل الانتخابات زعزعت ثقة الناخبين فيها لا ان تأتي وتحيك سيناريوهات لا تمت الى الواقع بصلة وتعدد اتهامات مبنية على القيل والقال دون وجود ادلة مقبولة تقنع الجمهور اولا ومؤسسات الدولة والقضاء ثانيا موقعة نفسها في مأزق ليس من السهل التملص منه دون دفع الثمن.
ليس هناك ادنى شك في ان العملية برمتها لم تسلم من شوائب ولم تخل من خروقات وصفت بعضها بالكبيرة اذ لم تأت في عدة جوانب متطابقة تماما للمعايير المعتمدة عالميا الامر الذي طالما اعتبر طبيعا في الديمقراطيات الناشئة مثل العراق، الا ان بعض القوى وجدت في ذلك فرصة للنجاة بجلدها وبالتالي عمدت الى استغلاله لأخفاء حجمها الحقيقي والتغطية على فشلها الذريع في المعركة الديمقراطية عبر تضخيم الامر اكبر من حجمها وابعاد التركيز عما يتعلق بفقدان ثقة المواطن بسياساتها ووعودها.
ومن المفارقات ان اطرافا سارعت الى الطعن في مصداقية العملية حتى قبل اعلان النتائج الاولية من قبل المفوضية العليا للانتخابات، واطراف اخرى سلكت اتجاهين في آن واحد، فكانت ترسل اشارات عن بحث كيفية تشكيل الحكومة المقبلة وشكلها وبرنامجها من جهة، وتشكك في نتائج الانتخابات من جهة اخرى محاولة اظهار نفسها وكأنها غير راضية لما آل اليه التصويت. وهي بذلك تريد اصابة عصفورين بحجر.
اسباب واضحة نسيتها الاطراف او تناستها ادت الى هذه النتائج المفاجئة وغير المتوقعة للانتخابات، فقد كانت المرة الاولى عبر التاريخ يجرب فيها العراقيون نظاما الكترونيا للتصويت وبالتالي ادت جودته الى الكثير من الاشكاليات من قبيل توقف الاجهزة وتعطل بعضها في عدد من مراكز الاقتراع وبطئها فياخرى وكذلك حساسيتها في احتساب الاصوات الصحيحة وعدم المام العديد من الناخبين بالطريقة الصحيحة لاستعمال القلم الالكتروني في ختم الورقة الانتخابية واختيار الكيان والمرشح. اضف الى ذلك ان نسبة كبيرة من المصوتين كانوا من كبار السن والاميين ما جعل تصويتهم بالشكل الصحيح محل تساؤلات جدية.
المفاجأة الكبرى على الاطلاق تمثلت في التدني الملحوظ في نسبة المشاركة في الاقتراع والتي بالكاد وصلت الى (44%) وهي ادنى نسبة مشاركة في الانتخابات العراقية بعد عام 2005. وهذه النسبة كانت لتتدنى اكثر لو لم تسعفها نسبة المشاركة العالية بعض الشيء في عدد من مدن اقليم كردستان، حتى حاول البعض استغلال هذا المأخذ ذريعة للدعوة الى اعادة الانتخابات،وقد انعكس تدني المشاركة على الانخفاض الواضح في عدد اصوات القوائم والكيانات عموما وصل لدى بعضها الى نحونصف ما حصلت عليها في الانتخابات السابقة الامر الذي ولد امتعاضا واستياءا كبيرين داخل القوائم التي لجأت الى تبرير فشلها عبر التشكيك في الانتخابات بدل تقبلها النتائج كما هيوالشروع في مراجعات عميقة لاساليبها التنظيمة وسياساتها العامة تجاه مجمل القضايا.
وكان بروز احزاب وقوائم جديدة على مستوى العراق ككل بما فيه الاقليم ودخولها المعترك السياسي والتنافس الانتخابي للمرة الاولى من الاسباب الاخرى التي ادت الى انخفاض عدد اصوات الكيانات الفائزة اذ ساهم في توزع نسبة الاصوات القليلة اصلا على عدد اكبر من القوائم لذلك نجد ان عدد المقاعد التي حصلت عليها القوائم المتصدرة متقاربة وفارق المقاعد بينها ليس كبيرا. الاحزاب المتضررة كانت تدرك جيدا ان نزول قوائم جديدة غير معروفة وحديثة المنشأ او منشقة عن احزاب عريقة اخرى في الانتخابات سيقلل عدد اصواتها الا انها لم تولي الامر اهتماما مستخفة بشأن القوائم الجديدة دون الاكتراث الى التاثيرات التي ستخلفها عليها في القريب العاجل.
ولم تنته الاحزاب المتراجعة من مصابها حتى جاء تطبيق نظام سانت ليغو المعدل 1.7 والذي صادق عليه مجلس النواب ليكمل اسباب تراجعها ويأخذ منها الشيء الكثير ويمنحه للاحزاب الكبيرة فالنظام في الاساس مبتكر لمنفعة الاحزاب الكبيرة على حساب الصغيرة وبالتالي تعمقت جراح الاحزاب المتراجعة. وقد دعم النظام وحجم قاسمه الانتخابي الكبير (1.7) مرشحي الكتل الكبيرة والمتوسطة للحصول على مقاعد رغم قلة عدد الاصوات التي حصلوا عليها مقابل عدد اكبر من الاصوات التي يحوزها مرشحو القوائم الصغيرة او المنفردة. وقد بدى التأثير واضحا عند اعلان النتائج الاولية ومعرفة كل قائمة لعدد اصواتها وقيام اجهزتها الانتخابية بالعمليات الحسابية لاستحصال مجمل ما تحصل عليها من مقاعد وهنا كانت الصدمة اكبر، فحاولت الاحزاب المتراجعة ايجاد حجة سهلة لتبرير الخسارة والقاء اللوم على الاخرين متهمة اياهم بالتزوير وسرقة اصوات ناخبيها.
مفوضية الانتخابات المكونة من ممثلي معظم الاحزاب فهمت اللعبة سريعا واستمرت في اجراءاتها المنصوص عليها في القانون والمتوافق عليها مسبقا من قبل الكتل البرلمانية ولم ترضخ للضغوط الهائلة التي تعرضت لها وان لم تسلم من اتهامات الخاسرين لها بالتواطؤ والفشل حتى اعلنت النتائج النهائية للعملية منجزة بذلك ما اوكل اليها على احسن وجه تستحق الشكر والثناء.
*صحفي من كردستان
التعليقات