بعد مسرحية هسام هسام الفاشلة
الأداء السوري يعمق مأزق النظام
بلال خبيز من بيروت: كثر الذين يتساءلون، في الآونة الاخيرة، عن السبب الذي يدفع الإدارة السورية إلى سلوك هذه المسالك المتعرجة في التعامل مع التحقيق الدولي في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. والأرجح ان الاجوبة عن هذه التساؤلات لا تجد مستقراً مقنعاً. فتارة ينسب مثل هذا السلوك إلى حيرة تلف السياسة السورية برمتها. وطوراً ثمة من يتحدث عن نقص في الكفاءة يجعل هذه الإدارة تخرج من نفق مظلم لتدخل في ما هو اظلم منه.
على كل حال ليس متيسراً ان يجيب المرء عن سر الحكمة التي تدفع اليوم الإدارة السورية إلى كشف اوراقها بوصفها تتلاعب وتضلل تحقيقاً دولياً. وبصرف النظر عن المطالبات السورية المتكررة بإعادة النظر في تقرير ميليس وهي مطالبات لن تلقى اذاناً صاغية في طبيعة الحال، فإن مراقبة تطورات الأسبوع الأخير على هذا الصعيد تكشف من دون لبس، ان التدخل السوري في مجريات التحقيق، بهدف صرفه عن مساره والتشويش عليه، بدت واضحة للعيان. إذ ليس في وسع حلاق رجالي ان يدلي بمعلومات متطابقة مع شهود آخرين من دون ان يزوده جهاز ما بالمعلومات التي في وسعها ان تضلل التحقيق. في عمل المخابرات والصراعات التي تجري في ما بينها يكون مثل هذا التضليل مرغوباً ومطلوباً. لكن الأمر يختلف اختلافاً حاسماً في مجريات تحقيق قضائي. إذ ليس ثمة ما يمنع المكلفين بالتحقيق من تسطير مذكرات اتهامية في حق من تلاعب بالتحقيق وحاول تضليله، وتالياً في حق المحرضين والمتدخلين إلى أي جهة انتموا. في هذه الحال تتحول الإفادة التي ادلى بها الحلاق السوري اكثر مصداقية لجهة انها من دون شك تتضمن معلومات دقيقة ومستقاة من مصادر على صلة بموضوع التحقيق. مثل هذا التدخل لا يلبث ان يضع الإدارة السورية موضع مساءلة متجددة. وهذا بالضبط ما لا يمكن فهم اسبابه.
هناك حديث يدور في اروقة السياسة اللبنانية والعربية عن مطلب سوري بتأخير التحقيق ومجرياته ما امكن. وفي الانتظار يسقط كثير من الضحايا، ويحترق كثير من الاوراق. لكن الوقت هو ما تحتاجه الإدارة السورية لتخفيف قوة الاندفاعة الاميركية في المنطقة وضرب زخمها الحالي. ومع الوقت يمكن ان تتغير مجريات كثيرة، وان تضطر الولايات المتحدة وفرنسا، إلى التقليل من زخم اندفاعتهما في المنطقة، خصوصاً ان سنتين فقط تفصلان البلدين عن انتخابات قد تغير الكثير في سياساتهما. والحق ان هذا التعويل قد يكون مجدياً في حالات كثيرة. لكن اي مراقب لما يجري اليوم في المنطقة العربية يمكنه ان يدرك في سهولة ان الأمور تسير بخلاف ذلك تماماً. فالوقت، في ما يبدو، يسير في صالح الهجمة الاميركية وليس في صالح الصمود السوري عند اعتاب سياسة بائدة. إذ لا مفر من التذكير ان القرار 1636 انما يفتتح عهداً دولياً جديداً في لبنان وسوريا. وان الوصاية الدولية من المدخل القانوني والتي يتيحها القرار ليست مرشحة في اي حال من الاحوال لأن تتضاءل او تخف وتيرتها. فحين تنفتح احشاء نظام ما على وصاية دولية لا يعود في امكان هذا النظام لملمة اوضاعه لمجرد ان رأس حربة الهجوم الدولي خفت حدتها. فهذا الضرب من الوصاية يفتح احشاء النظام على كل طامع وقادر. وليس مهماً الطرف الذي سيرث الاندفاعة الاميركية ما دام النظام السوري ينكشف اكثر فأكثر امام وصاية دولية خانقة.
بعد شهور قليلة على انطلاق الهجوم الاميركي على الداخل السوري لم يعد في وسع اي كان القول ان سوريا اليوم هي نفسها سوريا قبل اغتيال الحريري. لقد تحول البلد الذي كان يعتبر محورياً في المشرق العربي إلى بلد يستجدي التضامن الشكلي معه من اي جهة اتى. والحق ان وقائع الأسابيع الاخيرة بدت معبرة على هذا الصعيد. حيث ذهب السيد فاروق الشرع إلى اتهام قاضي التحقيق الالماني بعدم التعاون مع سوريا، مما جعل طريق العقوبات ممهداً ومن دون اي معوقات تذكر. لكن اتصالات مكثفة اجراها المسؤولون السوريون مع الملك عبدالله بن عبد العزيز جعلت الأخير يتدخل محاولاً تجنيب سوريا مصيراً محتوماً. الأمر الذي يكشف مدى العزلة السورية الفعلية، وإلى اي حد لم تعد مصالحها تؤخذ في اعتبار المجتمع الدولي. لكن الإدارة السورية سرعان ما اخذت تعلن انها اجبرت المجتمع الدولي على الانصياع لرغباتها واخذ مصالحها في الاعتبار، مما حدا بالملك السعودي إلى التصريح ان تدخله انما اتى بناء على رغبة سورية حارة وحادة.
السلوك الدبلوماسي السوري يبدو يوماً فيوماً عاجزاً عن الإحاطة بالعواصف التي تهب عليه وتطويقها. فالهجمة الدولية بالغة الشدة ولا يمكن الصمود طويلاً في وجهها. لكن الأداء السوري يبدو كما لو انه يفاقم من حدة هذه الهجمة ويعطيها مبررات اكثر فأكثر يومياً. فبعد هذا الإصرار الرسمي السوري على ادعاء دور كبير في المنطقة، سرعان ما تكشف الوضع عن مسرحية هسام هسام. الشاهد المقنع الذي لم يعد مقنعاً. وسرعان ما تنبنت الإدارة السورية هذه المسرحية بوصفها من اعدادها واخراجها. لكن ما لم يتم الانتباه له في هذا الإخراج البدائي، ان الشاهد المقنع تحول من شاهد إلى متهم بإعاقة وتضليل التحقيق الدولي، وان هذه التهمة وحدها اكثر من كافية لمحاصرة سوريا بوصفها المدبر الأول لهذه المسرحية. وهذا ادعى في حد ذاته إلى محاصرتها فعلياً من دون حاجة إلى اثبات مسؤولية المسؤولين السوريين في اغتيال الحريري.
جل ما يمكن ان تطمح له سوريا من مثل هذه المسرحية يتعلق بإطالة امد التحقيق الدولي والتعكير عليه. لكن هذه الإطالة ليست في اي حال من الاحوال في مصلحة سوريا. إذ كلما طال امد هذا التحقيق كلما اخضعت سوريا اكثر فأكثر لموجباته وخسرت من سيادتها وسلطتها على قراراتها ما يجعلها في نهاية التحقيق وبصرف النظر عن نتائجه، وإذا ما كانت هذه النتائج تدين المسؤولين السوريين ام تبرئهم، اكثر انكشافاً امام موجبات الوصاية واقل قدرة على الصمود في مواجهة العواصف الدولية. على هذا يتم اطالة امد التحقيق وفي الأثناء تبقى سوريا متهمة سياسياً بقتل الحريري، مع ما يستتبع هذا الاتهام من مفاعيل تجعلها يوماً بعد يوم اضعف من ان تدافع عن حدود سيادتها، واقل من ان تؤدي دوراً يتجاوز حدودها في اي حال من الاحوال.
الإدارة السورية في مأزق. هذا امر مفروغ منه. سوريا تتعرض لهجمة دولية شديدة الخطورة، وهذا ايضاً امر مفهوم. لكن ما لا يبدو مفهوماً على الإطلاق هو السبب الذي يحدو بالإدارة السورية إلى تعميق مأزقها اكثر فأكثر، وخسارة دورها داخلياً وخارجياً بما يجعل الوصاية عليها مطلبأً سورياً داخلياً بامتياز.
التعليقات