واشنطن: جاء في الوثيقة التأسيسية لشركة quot;بلاك ووترquot; الأميركية Blackwater، التي توفر الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة، النص التالي quot;مهمة الشركة دعم الأمن العالمي والعمل على إرساء مبادئ الحرية وتعزيز الديمقراطية عن طريق دعم السياسات الوطنية الأميركية والدولية للدفاع عن المضطهدين ومن لا صوت لهم، وبناءً على ذلك يلتزم الرجال والنساء ببلاك ووتر بأن يكونوا في الصفوف الأمامية في الحرب على الإرهابquot;.

وبعد عقد واحد فقط من تأسيس الشركة أصبح لها قواعد عسكرية في أكثر من تسع دول على مستوى العالم؛ لتُكوّن أكبر جيش خاص لديه إسطوله الكامل من الأسلحة الخفيفة والثقيلة والطائرات والمعدات اللوجيستية، وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية تعرضت quot;بلاك ووترquot; لسيل من الاتهامات بقتل المدنيين في العراق وأفغانستان والاتجار بالبشر، كما ارتبط اسمها بفضيحة سجن rdquo;أبو غريبquot; الشهيرة، لتصبح الشركة الراعي الرسمي لانتهاك حقوق الإنسان في العالم، وبذلك يُرفع الستار عما جاء في وثيقة التأسيس الخاصة بها التي اتخذت من الديمقراطية والحرية حجة لتحقيق مليارات الدولارات.

وقد كانت quot;بلاك ووترquot; صاحبة النصيب الأكبر في الحصول على عقود الإدارة الأميركية في العراق، فوفقًا لتقارير حكومية أميركية، حصلت بلاك ووتر من إدارة بوش منذ يونيو 2004 حتى نهاية عام 2006 على عقود مشروعات يزيد قيمتها عن 320 مليون دولار. وذلك في مقابل خدمات الحماية التي توفرها للدبلوماسيين الأميركيين في العديد من دول العالم وليس السفارة الأميركية في العراق فقط.

ضغوط شديدة
في الشهور القليلة الماضية بدأت دوائر صنع القرار في الكونجرس والبيت الأبيض تستشعر الخطر الذي تسببه لها الشركات الأمنية الخاصة في العراق Private Security Military Companies؛ حيث مارست الأغلبية الديمقراطية ضغوطًا شديدة على وزارة الخارجية وطالبت بوضع آلية لمحاسبة quot;مرتزقة الشركات الأمنية الخاصةquot; والتي تسببت في مقتل العديد من المدنيين العراقيين العُزّل من السلاح دون أي ذنب، وفي المقابل لم يستجب البيت الأبيض أو وزارة الخارجية لهذه المطالب، واكتفى كلاً منهما بتصريحات ووعود للتحقيق في هذه الحوادث.


وتعتمد الإدارة الأميركية في العراق على مرتزقة الشركات الأمنية الخاصة بشكل أساسي، فبالرغم من أن أعداد القوات الأميركية في العراق وصلت إلى 165 ألف جندي، فإن أعداد المرتزقة تصل إلى ما يزيد عن 150 ألف عنصر، مما يضاعف العدد الفعلي للجيش الأميركي في العراق، الذي يعاني بدوره من أزمات عديدة لأسباب كثيرة أهمها أن عدد الجنود في الجيش الأميركي غير كاف؛ حيث يتوزع الجيش الأميركي على العديد من الجبهات: أفغانستان في شمال أسيا، والعراق، والقوات الأميركية المتمركزة بين الكوريتين ndash; الشمالية والجنوبية- جنوب شرق أسيا، إلى جانب القوات الأميركية في حلف الناتو، والقوات المشاركة في العديد من قوات حفظ السلام في العديد من دول العالم، بالإضافة إلى القوات الأميركية التي تُعسكر في القواعد الأميركية في دول الخليج مثل: قطر ndash; السيالة ndash; الإمارات والبحرين وغيرهم.


الحرب على أكثر من جبهة
يعيش عناصر الجيش حالة من الإجهاد غير المسبوق، فمعظمهم مضطر للخدمة على أكثر من جبهة في أوقات متتالية دون الحصول على راحة بين الجبهتين. مما يؤثر على أداء الجيش وقدراته القتالية، حتى أنه أصبح من المستحيل في الوقت الحالي أن يتخلى الجيش الأميركي عن الخدمات التي تقدمها له الشركات الأمنية العسكرية الخاصة؛ والتي توفر خدمات الحماية لمواكب الدبلوماسيين، وكذلك تأمين دخول احتياجات الجيش للعراق من طعام وملابس وعمال.

الأمر الثاني هو صعوبة العودة لنظام التجنيد الإجباريMandatory Service ، والذي أُلغيّ في أعقاب حرب فيتنام، ذلك أن نظام التطوع لا يناسب الوضع الحالي للجيش الأميركي الذي يحارب على أكثر من جبهة، ومن هنا كان الحل في خصخصة الحرب عن طريق اللجوء لشركات خاصة توفر غطاءُ شرعيًا؛ بغرض مضاعفة العدد الفعلي للجيش الأميركي دون الحاجة لقرار من الكونجرس بذلك، أو التقيد بالالتزامات الأخلاقية تجاه المعاهدات الدولية الخاصة بالحرب.

وقد باتت محاسبة هذه الشركات هي القضية الأبرز في واشنطن؛ خاصة أن الشركات الخاصة التي تُقدم خدمات أمنية وعسكرية خارج أراضي الولايات المتحدة لا يَمثُل العاملين بها أمام المحاكم العسكرية الأميركية، كما أنه لا يحق للحكومة العراقية ملاحقتهم، ويكمن السبب في عدم وجود آليات لمحاسبة المرتزقة الذين يعملون لدى تلك الشركات في أن الإدارة الأميركية عملت على توفير نوع خاص من الحصانة لهذه الشركات للحيلولة دون مثولها أمام أي محكمة، ففي يونيو 2004 أصدر بول بريمر، قائد القوات متعددة الجنسيات في العراق، ما يُعرف بـ quot;القرار رقم 17quot;، أو quot;فرمان 17quot; كما يطلق عليه الجنود الأميركيين، ويقضي هذا القرار بأن تعمل الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة بحرية تامة، كما أنه ليس من حق الحكومة العراقية استجوابها أو محاكمة أعضائها، كما لا يَمثُل العاملون في هذه الشركات للقضاء العسكري الأميركي ولا يعاملون معاملة الجنود التابعين للجيش الأميركي. حيث ينص القرار على أن quot; العناصر التابعة للشركات الأمنية الخاصة لا تخضع للقانون العراقي، ولا تتحمل أي التزامات قانونية خاصة بالدستور أو القانون العراقي، بل هي تابعة لقوات التحالف متعددة الجنسيات، إلا أنهم يتعهدون باحترام القانون العراقيquot;.


حصانة كاملة
أما بالنسبة للمحاكم العسكرية فيقول القرار نصًا quot; يحظر تمامًا على القوات متعددة الجنسيات أن تُطبق قوانينها العسكرية على العناصر التابعة للشركات الأمنية الخاصة، كما يحظر اعتقالهم أو دخولهم السجن العسكري ولو لفترة مؤقتةquot;. وبهذا النص استطاعت الإدارة الأميركية توفير الحصانة اللازمة للمرتزقة الذين يعملون في الشركات الخاصة، ويُذكر أن القرار في بدايته قد نص على أن الدبلوماسيين يتمتعون بحصانة دبلوماسية ولا يَمثُلون أمام القضاء العراقي وفقًا لمعاهدة فيينا المبرمة عام 1961. وعلى ذلك يكون القرار قد منح العاملين في الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة حصانة مثل الدبلوماسيين، إلا أن الدبلوماسي يخضع للقانون في بلده التي يحمل جنسيتها، أي أن هناك آليات لمحاسبته، أما مرتزقة الشركات الخاصة فيصعب وضعهم تحت طائلة القانون.


وهناك العديد من العوامل التي يرى المراقبون أنها تحول دون وضع آلية لمحاسبة عناصر الشركات الأمنية الخاصة منها:

أن عناصر هذه الشركات لا ينتمون لجنسية واحدة؛ وبالتالي من الصعب إخضاعهم جميعًا للمحكمة العسكرية الأميركية، كما أنه من الصعب أن يخضع كلاً منهم أمام محكمة بلاده؛ خاصة أن معظم البلاد التي جاءوا منها ليست طرفًا في النزاع وليس لها قوات في العراق، وبالتالي فهي ليست ملزمة بمحاكمة مواطن يحمل جنسيتها اختار أن يكون من المرتزقة لخدمة مصالحه الشخصية.

أن أعداد المرتزقة في العراق بلغت وفقًا لأحدث الإحصائيات غير الرسمية أكثر من 160 ألفًا، وبالطبع سيصعب ملاحقتهم ومراقبتهم في ظل عدم وجود آلية محاسبة قضائية مثل التي توجد في أي جيش نظامي، حيث إن المرتزقة ليسوا تابعين لشركة واحدة وليست لديهم وحدة مركزية، هذا بالإضافة إلى أن الاقتراح الذي قُدم من قِبل أحد أعضاء الكونجرس بشأن تولي المباحث الفيدرالية (FBI) المسألة واجه الكثير من الاعتراضات، حيث بدأت الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس بمساندة بعض الأعضاء الجمهوريين فتح ملف قضية محاسبة هذه الشركات في بداية هذا العام. ففي تقرير صدر عن الكونجرس ورد أنه من الصعب ملاحقة عناصر المرتزقة التابعين للشركات الأمنية الخاصة. حيث إن المعلومات التي تتوفر لدى الكونجرس والإدارة الأميركية تكاد تكون غير موجودة.

تعتيم غير مبرر
يكشف التقرير الذي حصل quot;تقرير واشنطنquot; على نسخة منه عن طريق وحدة الأبحاث التابعة للكونجرس Congressional Research Service، أن قوات المرتزقة تتكون من عدد لا حصر له من الجنسيات، ويضيف التقرير أنه وفقًا لإحدى الإحصائيات التي حصل الكونجرس عليها فإن هناك أكثر من 60 شركة أمنية عسكرية خاصة تعمل في العراق.

ويكشف التقرير عن أن وزارة الخارجية الأميركية ليس لديها معلومات عن عدد المتعهدينContractors الذين يقومون بجلب المرتزقة من بلاد مختلفة، ومعظمها بلاد نامية، ويُشكل المرتزقة من الأميركيين حوالي 21 ألفًا فقط بنسبة 17%، بينما يُشكل العراقيون الأغلبية في الوقت الذي تنتمي فيه النسبة الباقية إلى كل من التشيلي ونيبال وجنوب أفريقيا وبريطانيا.

ويشير التقرير إلى أن أجر فرد المرتزقة اليومي يتراوح ما بين 500 دولار إلى 1500 دولار، كما كلفت الشركات الأمنية الخاصة وزارة الخارجية الأميركية 4 مليار دولار في عام 2006 وذلك في مجال إعادة البناء فقط دون برنامج حماية الدبلوماسيين.

ويقول التقرير إن هناك تعتيمًا غير مبرر من قِبل وزارة الخارجية الأميركية حول المتعهدين من قِبل الشركات الأمنية الخاصة؛ حيث أنه حتى بداية هذا العام كان من المستحيل الحصول على أي تفاصيل عن هذه الشركات، ويسرد التقرير الشركات الأمنية العسكرية الرئيسية التي أفرجت وزارة الخارجية عن أسمائها، وأولى هذه الشركات هي الشركة العالمية لتوفير الحماية الخاصة للأشخاص WPPS، والتي تعتبر مظلة تعمل تحتها بقية الشركات ومن ضمنها شركة بلاك ووتر، وداين كورب انترناشونال Dyn Corp International، وترايبل كانوبي Triple Canopy، وغيرها.

وقد رأت العديد من التحليلات أن الفوضى التي سادت عمل الشركات الأمنية في العراق سببها الرئيسي سياسة الإدارة الأميركية الحالية؛ حيث إن التجاوزات لم تأت من جانب الشركات الأمنية فقط، بل هناك عشرات التجاوزات التي ارتكبها عناصر الجيش الأميركي، حيث أن الوضع العام والضغط النفسي الذي تعيشه القوات الأميركية هناك يؤدي إلى ذلك.

وفي الوقت نفسه يرى العديد من الباحثين في واشنطن أن الشركات الأمنية الخاصة باتت ضرورة في الوقت الحالي؛ حيث إن الجيش الأميركي لم يخض أي معارك خارج الولايات المتحدة منذ بداية التسعينيات دون الاعتماد على شركات خاصة.

وقد قالت كوين هيثار A. Heather Coyne ، الخبيرة الأميركية في مجال إدارة الصراعات الدولية بمعهد السلام الأميركي USIP والتي عملت في العراق منذ عام 2003 حتى عام 2006، في حوار خاص لـquot; تقرير واشنطنquot; حول خبرتها مع الشركات الأمنية الخاصة، quot;إنها عندما وصلت إلي العراق في عام 2003 مع بداية الغزو الأميركي للعراق كان لديها العديد من الأسئلة حول عمل تلك الشركات، خاصة أن الصورة الذهنية التي تكونت لديها عنهم كانت أنهم مجرد مرتزقة يقاتلون من أجل المال فقط بغض النظر عن الولاء الذي يُعتبر أمرًا ثانويًا، إلا أنها بعد أن قامت بالعديد من الأبحاث والتحقيقات الميدانية، وجدت أن تدخل الشركات الأمنية الخاصة في الصراعات الدولية في أماكن أخرى من العالم مثل سيراليون كان هامًا للغاية، ولكن الظروف التي عملوا فيها في هذه الصراعات كانت مختلفة، حيث كانت شعبية مرتزقة الشركات الخاصة بين المواطنين في سيراليون كبيرة، كما تكررت التجربة بنجاح في جمهورية الكونجو، حتى أن المواطنين هناك أشادوا بالمعاملة الحسنة التي وجدوها من مرتزقة الشركات الخاصةquot;.

معايير وضوابط
وتضيف هيثار، التي عملت كمتخصصة في مجال الخدمة المدنية Civil Affairs Officer في الجيش الأميركي في العراق، أنها بعد عدة سنوات من البحث في هذا المجال وجدت أنه ليس من الصعب وضع آليات لمحاسبة تلك الشركات، قائلة quot;إن المرحلة القادمة سوف تشهد توسعًا كبيرًا في استخدام الشركات الأمنية الخاصة؛ ليس فقط من قِبل الولايات المتحدة بل من قِبل العديد من الدول، وبالتالي فإنه من الضروري أن يتم وضع نظام دولي يحدد معايير وضوابط لعمل هذه الشركات؛ لضمان عدم حدوث تجاوزات أو انتهاكات لحقوق الإنسان على نمط ما حدث في العراقquot;، وتشرح كيف يمكن أن يتم ذلك قائلة quot;إن هذا النظام لابد أن يوفر العديد من الأدوات الفنية اللازمة للمحاسبة، مثل إيجاد آلية لمراقبة نشاطات وعمل عناصر الشركات الخاصة بشكل يومي عن طريق أجهزة متخصصة في ذلك ويكون لديها في نفس الوقت صلاحيات التحقيق والتحريquot;.

وتضع هيثار مجموعة من الإجراءات الأولية التي يمكن أن تُتخذ ضد الشركات الخاصة كمرحلة أولية، تشمل فرض غرامات مادية كبيرة في حالة حدوث أي انتهاكات لحقوق الإنسان، إلى جانب وضع عناصر الشركات الذين قاموا بذلك في قوائم سوداء، وترى هنا أنه بالرغم من بساطة هذه الإجراءات إلا أنها سيكون لها تأثير فعّال؛ حيث إن فرض غرامات على الشركة الهدف منه التأثير على سمعتها، خاصة وأن الفترة القادمة ستشهد إقبالاً كبيرًا على هذه الشركات من قِبل المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي؛ لذلك سيكون العامل الأهم في اختيار هذه الشركات هو السمعة، أما وضع العناصر في قوائم سوداء من شأنه القضاء على مستقبلهم المهني في مجال المرتزقة في حالة ثبوت تورطه في عمليات انتهك فيها حقوق الإنسان، ومن جانبها ستسعى الشركات في توظيف عناصر ذات تاريخ جيد في هذا المجال للحول دون تردي سمعتها.


وتروي هيثار خبرتها في العمل مع الشركات الأمنية الخاصة لمدة ثلاث سنوات، قائلة quot;إن العديد من الاتجاهات كانت تأمل أن تقوم الولايات المتحدة والأمم المتحدة بتطوير الإجراءات الخاصة بالتعامل مع الشركات الخاصة، طوال فترة التسعينيات؛ إلا أن ذلك لم يحدث وقصّر فيه الجميعquot;، وتضيف quot;أنه مع بداية غزو الولايات المتحدة للعراق كان من المعروف أن الجيش الأميركي لن يخوض الحرب دون الاعتماد على الشركات الخاصة، وكان من المتوقع أيضًا أن تُظهر عناصر هذه الشركات نضجها، خاصة أن عناصرها أكثر خبرة من جنود الجيش الأميركي، الذي يتكون معظمه من شباب صغار السن لا يتجاوز عمرهم 23 عامًا. إلا أن العكس حدث حيث انتشرت الحوادث التي انتُهكت فيها حقوق الإنسان من قِبل عناصر الشركات الخاصة مع المواطنين العراقيين، وبات الجميع يعرف أن ذلك يحدث، إلا أنه لم يتحرك أحد طوال السنوات الخمس الماضيةquot;.