القضاء اللبناني يحكم بتغريم زاهي وهبي
من يحكم للشعب اللبناني بتغريم رؤسائه وزعمائه
بلال خبيز من بيروت:
صادقت محكمة التمييز على الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات بحق الزميلين زاهي وهبي وتوفيق خطاب، لجهة تغريم كل من وهبي وخطاب خمسين مليون ليرة لبنانية وتدريكهما الرسوم، بسبب مقال الزميل وهبي المنشور في صحيفة المستقبل يوم 7/6/2005، بعنوان laquo;فخامة القاتلraquo;. وكان المقال قد تضمن عبارات عُدّت مسيئة لرئيس الجمهورية أصدر القضاء حكمه بحق الزميل وهبي والمدير المسؤول لصحيفة quot;المستقبلquot; اللبنانية، الزميل توفيق خطاب. وبهذا الحكم الذي يعتبر اكثر احكام القضاء قسوة بحق الصحافيين منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، تسدل الستارة على هذه القضية في جانبها القضائي لتستأنف في جوانبها الاخرى استمراراً للأزمة الفتوحة في لبنان والتي لا يبدو أن حلولها ممكنة على المدى المنظور.
كان زاهي وهبي قد كتب مقالة في صحيفة المستقبل اللبنانية إثر اغتيال الصحافي وكاتب الصفحة الاولى في صحيفة quot;النهارquot; الزميل سمير قصير، في الثاني من حزيران ndash; يونيو من العام 2005. بعد اغتيال سمير قصير بعبوة وضعت تحت مقعد سيارته بأيام قليلة كتب زاهي وهبي في صحيفة المستقبل مقالة حملت عنوان quot;فخامة القاتلquot;. على الأثر، وبعد ايام ثلاثة فقط، استدعي الزميل زاهي وهبي والمدير المسؤول للصحيفة التي نشر فيها المقال للمثول امام قاضي التحقيق في بيروت عبد الرحيم حمود للنظر في دعوى الحق العام على الزميلين بتهمة القدح والذم بحق رئيس الجمهورية اللبنانية يومذاك العماد اميل لحود.
المقالة التي كتبها وهبي لم تتضمن اي اشارة مباشرة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية. لكن المدعي العام اعتبر ان المقالة تضمنت عبارات اعتبرت مسيئة للرئيس وتشير إليه. تلك العبارات على ما جاء في حيثيات الحكم بعد ما يقارب السنوات الثلاث، تتصل بقول وهبي ما يلي:
quot;البلاد تسبح في دموعها والقاتل يسبح في حمام الحقد والكراهية والحسد.
الأرض تهتزّ من هول الجريمة والقاتل متشبث بكرسيّه الهزّاز.
الوطن يكاد يمسي جنازةً يومية والقاتل يمشي خلف نعش القتيل. يعزّي أهله ومحبّيه لكنه لا يذرف دموع التماسيح. إنه يبتسم فقط.
كل القتلة يبتسمون.
ينهض القاتل من نومه كل صباح ويرتدي ابتسامته كما يرتدي ربطة عنقهquot;.
فهذه المقالة وصفت القاتل بأنه متشبث بكرسيه الهزاز، في وقت كان فريق 14 آذار المعارض يومها يطالب الرئيس لحود بالتنحي عن كرسي الرئاسة، وهذا ما تم اعتباره قرينة او معطى اول في حيثيات الحكم. وثانياً لأن الكاتب اشار إلى ان القاتل يسبح في حمام الحقد والكراهية والحسد، مما اعتبر اشارة إلى عادات الرئيس السابق اميل لحود الذي عرف عنه انه يفضل السباحة على اي امر آخر، واخيراً قول الكاتب بان القاتل يرتدي ابتسامته كما يرتدي ربطة عنقه، وكان عرف عن الرئيس لحود انه دائم الابتسام.
اخيراً استندت حيثيات الحكم إلى عنوان المقالة، quot;فخامة القاتلquot; والإشارة إلى الجنرال فرانكو (هو ايضاً). مما يشير على نحو موارب إلى الجنرال اميل لحود رئيس الجمهورية الذي يسبق اسمه لقب الفخامة قبل ان تلغى الألقاب في عهد سلفه الرئيس الياس الهراوي.
على اثر استدعاء الزميل وهبي إلى التحقيق، اتصل به الرئيس السابق الياس الهراوي، رحمه الله، وابلغه ان لا سبب يدعوه للقلق، فالألقاب ألغيت، وتالياً لا يمكن إدانته على ما ليس ثابتاً. لكن المحاكمة استمرت وأصدرت محكمة المطبوعات حكمها بسجن الزميلين 3 اشهر وتغريمهما مبلغ 100 مليون ليرة لبنانية، اي ما يعادل 66 الف دولار اميركي.
استأنف الزميلان الحكم. لكن محكمة التمييز التي قبلت الاستئناف شكلاً، ثبتت حكم محكمة البداية، لجهة التغريم بالمبلغ المذكور وألغت عقوبة الحبس.
هذا في الوقائع. لكن الوقائع لا تضيء الكثير مما يجدر بنا الإضاءة عليه.
في زمن المقالة والدعوى
نشرت مقالة وهبي اثر اغتيال سمير قصير في منتصف العام 2005. يومذاك كانت التظاهرات الحاشدة التي تدعو إليها قوى المعارضة التي حملت من تاريخ 14 آذار ndash; مارس اسمها، ترفع صور الرئيس لحود بوصفه شريكاً في القتل، فضلاً عن صور الجنرالات الأربعة الذين اوصى المحقق الألماني دينليف ميليس الذي ترأس لجنة التحقيق الدولية بحبسهم في ما بعد. بين هؤلاء الجنرالات كان ثمة جنرال يقود لواء الحرس الجمهوري، الذي يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية. وكانت الشكوك تحوم حول الجنرالات الأربعة شعبياً ورسمياً. وفي وضع يغلي بكل هذه الأحداث في تلك الفترة من الزمن، كان لمثل مقالة وهبي ان تمر من دون ان تثير لغطاً كثيراً. على اي حال لم تكن المقالة الموصوفة هذه اقسى المقالات التي كتبت بحق الرئيس السابق. فالرئيس لحود هو الرئيس الاكثر تعرضاً للنقد الصحافي في تاريخ لبنان. لكن الحق العام الذي ادعى على وهبي اراد من تجريم الكاتب بجرم القدح والذم، ان يصدر حكماً قضائياً يجب فيه كافة الأحكام السياسية التي سيقت في حق الرئيس لحود وغيره من السياسيين الموالين للنظام السوري في ذلك الوقت. وبهذا الحكم، اثبت القضاء اللبناني ان لا جرم على الرئيس السابق قضائياً، لكنه جعل من الجرم السياسي امراً واقعاً. وحيث ان الحكم صدر بعد انتهاء ولاية لحود رئيساً، فإن صدوره في هذه اللحظة بدا كما لو انه سبب اضافي لمعاودة فتح النار على الرئيس وعهده.
في زمن اصدار الحكم
يوم كتبت المقالة، لم يكن يجرؤ اكثر الموالين لسوريا غلواً في مناقشة اسبابها. كانت سوريا يومذاك تلملم اثار الصفعة الكبرى التي تلقتها على يد المجتمع الدولي، المستند إلى تيار شعبي جارف انفجر غضبه اثر اغتيال رفيق الحريري. وفي التظاهرات التي نظمت في تلك الفترة كان في وسع اي كان ان يسمع بأذنيه الهتافات التي تتهم الرئيس السوري بشار الأسد وربيبه اللبناني اميل لحود. ولم يكن ذلك يثير الكثير من الضجيج في الجهة المقابلة. المقالة بهذا المعنى لم تكن فريدة في بابها، حتى لو كان المقصود منها اتهام الرئيس لحود مباشرة، فمثل تلك الاتهامات كانت يومذاك على كل شفة ولسان. ويومها لم يأخذ اللبنانيون مسألة محاكمة الكاتب بالجدية اللازمة. كان الامر يشبه استمراراً لمد شعبي عارم يعطل القضاء وآلياته. حيث ان القضاء لا يحاكم الجماعات بل يفردهم إفراداً ليتسنى له ان يحاكمهم كل على حدة وبحسب حجم مشاركته في الجريمة موضوع الدعوى. زاهي وهبي كان واحداً من الحشد، وعليه لم يكن استفراده قضائياً إلا ضربا من ضروب التمثيل بالجزء لمعاقبة الكل. اي ان الدعوى المقامة انذاك هدفت إلى التمثيل بزاهي وهبي، وجعله عبرة للآخرين، وهم في هذه الحال حشد يفوق عدداً ربع الشعب اللبناني مجتمعاً.
بهذا المعنى لعب الفاصل الزمني بين رفع الدعوى واصدار الحكم النهائي دوره في تشتيت الحشد. فالحكم الذي صدر في اوائل النصف الثاني من آذار ndash; مارس 2008، صدر في ظل واقع سياسي مختلف عما كان عليه الواقع السياسي في العام 2005. اليوم ثمة هجوم سوري بدأ يحصد انجازاته في البلد. وثمة شعور عام لدى قوى 14 آذار ndash; مارس التي حملت لواء الاستقلال والسيادة في مواجهة القبضة السورية الثقيلة على لبنان، انها فعلت كل ما تستطيع فعله، ولم تنجح في كسر حدة الهجوم السوري على لبنان. ما يجعلها بمعنى من المعاني كما لو انها تختبر الشعور بالهزيمة رغم موارد قوتها الهائلة. واليوم ايضاً يستعد الرئيس السابق اميل لحود للظهور مجدداً في مقابلة تلفزيونية مع الزميلة ماغي فرح، وهو الذي لم يجد احد في وداعه يوم غادر قصر بعبدا، وكان ثمة ظن كبير في لبنان ان دوره السياسي انتهى مع خروجه من القصر الرئاسي. لكن الرئيس السابق يعود مظفراً إلى ساحة الإعلام وزاهي وهبي يحاكم بجرم القدح والذم.
في عدل القضاء وجور القانون
يقول الزميل زاهي وهبي لإيلاف انه يحترم حكم القضاء مهما كانت طبيعته. وانه تالياً ورغم شعوره بظلم الحكم إلا انه لا يرى سبباً للثورة على هذا الحكم. والحق ان الحد الفاصل بين المواطن في الدولة الحديثة والميليشاوي، لا يتصل باعتقاد المواطن ان كل احكام القضاء عادلة، بل بضرورة احترامها حتى لو كانت جائرة، في حين ان الميليشياوي يثور على الحكم الجائر، او الذي يعتبره جائراً، ويرضخ لأحكام ما يعتبره عادلاً. يحترم وهبي حكم القضاء، لكن ذلك لا يمنعه من الاعتقاد بأن الحكم الصادر بحقه قاس. وهو قاس واقعاً، إذ انه كما اسلفنا اقسى الأحكام القضائية التي صدرت بحق صحافيين منذ اكثر من عقدين. لكن عدل الحكم او جوره لا يختصران المسألة. ثمة نقطة اخرى ينبغي مناقشتها في جوهر القانون وروحه.

يقول وهبي انه لا يستسيغ ان يلجأ إلى القضاء من يملكون حصانة تمنع مقاضاتهم، في وجه من لا يملكون مثل هذه الحصانات. في هذا المعنى تبدو اي خصومة بين سياسي وصحافي محكومة بانتصار السياسي على الصحافي. والسياسي كما هو معلوم، يملك الحصانة التي لا تبيح محاكمته، لكنه ايضاً يملك السلطة التي لا قبل للصحافي برد غائلتها. السياسي يملك الانصار والاتباع، وفي بلد كلبنان، يصبح الانصار والاتباع اسلحة فتاكة في مواجهة من يفكر في مهاجمة السياسيين او انتقادهم. هذا من ناحية اولى اما من ناحية ثانية، فيجدر بنا ان نفكر مرات ومرات في معنى الحكم الذي صدر بحق وهبي. إذ ماذا لو كان الصحافي الذي يتعرض للمحاكمة لا يملك المبلغ المغرم به؟ هل يسهل مثل هذا الحكم الطائل الكلفة على فرد لا حول له ولا قوة انتقاد سياسات الزعماء في الصحافة اللبنانية بعد اليوم؟
سؤال آخر اشق واكثر خطورة. هل زاهي وهبي وامثاله من الصحافيين، في جهتي الانقسام اللبناني هم من يسبب استمرار هذه الازمة التي تعصف بلبنان منذ اكثر من ثلاث سنوات والتي يعترف جميع السياسيين بخطورتها وحدتها؟ ام ان المسؤولية تقع على عاتق السياسيين انفسهم. ولنسلم جدلاً ان طرفي الانقسام يتقاسمان المسؤولية بالتساوي عدلاً وقسطاساً، الا يجدر بالحق العام ان يحرك دعاويه لتغريمهم بجرم افقار الشعب اللبناني عن سابق تصور وتصميم، وبجرم قتل من قُتل وجرح من جُرح بسبب رصاص الابتهاج عند كل اطلالة زعيم من الزعماء على شاشات التلفزيون ولأسباب اتفه من هذه بكثير؟ هذا ليس سؤالاً ساذجاً بل يقع في صلب عمل القضاء وفي روح القانون ومتنه.
اثر انتخابات المتن الفرعية عام 2002 وفي ظل الهيمنة السورية على لبنان، وبعد اعلان وزارة الداخلية اللبنانية فوز غبريال المر على منافسته ابنة اخيه ميرنا المر بالمقعد الارتوذوكسي الشاغر بوفاة البر مخيبر، قدم وكلاء ميرنا المر وهي ابنة النائب الحالي ونائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق ميشال المر، طعناً بنيابة غبريال المر إلى المجلس الدستوري. قبل المجلس الدستوري الطعن شكلاً، لكنه اصدر حكماً اعتبر يومذاك غريباً. إذ ابطل نيابة غبريال المر واعلن فوز غسان مخيبر الذي كان قد نال اقل عدد من الأصوات في تلك الانتخابات. استند المجلس الدستوري في حيثيات حكمه إلى روحية القانون والدستور الذي يجعل السلم الأهلي قيمة تعلو في اهميتها قيمة ديمقراطية الانتخابات. ذلك ان الوقائع السياسية يومذاك كانت تنذر بنزاع اهلي خطر إذا ما اعلن المجلس الدستوري فوز احد المتخاصمين في تلك الانتخابات، ما جعله يقرر فوز المرشح الأقل حظاً والأقل قدرة على الحشد الجماهيري. كان ذلك حكماً في حق السياسيين اللبنانيين، بتهمة انهم وتحت مسمى نزاهة الانتخابات وديمقراطيتها هددوا السلم الأهلي.
اليوم يغرم زاهي وهبي وتوفيق خطاب بمبلغ 100 مليون ليرة لبنانية لأن وهبي كتب مقالة رأى فيها الحق العام انها تقدح وتذم برئيس الجمهورية السابق. لا بأس. لكن البلاد ترزح تحت غائلة القتل والاغتيالات والركود الاقتصادي والنزف البشري. من يحكم للبنان على قادته الميامين؟