واشنطن: لم يكن خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو في جامعة بار إيلان في السادس عشر من يونيو الجاري مجرد توضيح لسياسته تجاه عملية السلام والتفاوض مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وإنما تعدى ذلك لاستعراض موقف الحكومة الإسرائيلية من دعوة أوباما لقبول حل الدولتين ووقف الاستيطان في خطابه للعالم الإسلامي الذي ألقاه من جامعة القاهرة، في ظل ما تردد عن تصاعد وتيرة الضغوط الأميركية على إسرائيل لاستئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ولذا آثر نيتنياهو أن يعاجل بتحديد مساحة حركة أوباما واستباق طرحه لمبادرة لاستئناف المفاوضات على المسارين الفلسطيني والسوري قد لا تراعي مصالح إسرائيل بالقدر الكافي.

حينما طرح نيتنياهو رؤيته لعملية السلام وقبوله بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح كان يوجه خطابه بالأساس لطرفين أولهما: الداخل الإسرائيلي الذي تسيطر عليه التوجهات اليمينية المتطرفة الرافضة لتقديم أي تنازلات خلال عملية التفاوض. أما الطرف الآخر فهو إدارة أوباما التي جعلت من تسوية الصراع العربي الإسرائيليquot;مصلحة أميركيةquot; على حد تعبير أوباما في خطابه بالقاهرة. وهو ما يُثير تساؤلاً حول مواضع التوافق والخلاف بين المصالح الأميركية والإسرائيلية فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وإلى أي مدى يمكن أن تضغط الإدارة الأميركية على حكومة نيتنياهو اليمينية؟

لماذا الخلاف في المواقف الأميركية والإسرائيلية؟

شهدت العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية عدة متغيرات في الآونة الأخيرة منذ وصول الرئيس أوباما لسدة الرئاسة في الولايات المتحدة في بداية عام 2009 وإعلانه الالتزام برعاية التوصل لتسوية للقضية الفلسطينية تقوم على حل الدولتين وهو ما تواكب مع تشكيل حزب الليكود بزعامة نيتنياهو لحكومة ائتلافية من أحزاب اليمين المتطرف التي تدعم التوسع الاستيطاني ولا تقبل بتقديم أي تنازلات على صعيد القضايا الرئيسة للصراع بما أدى إلى اتساع حجم التناقض في توجهات الطرفين وأهدافهما المعلنة ووصل الأمر إلى ذروته خلال زيارة نيتنياهو إلى الولايات المتحدة ولقائه بالرئيس أوباما.

ومما يعزز الهوة بين المواقف المعلنة للولايات المتحدة وإسرائيل مواقف الرأي العام الإسرائيلي تجاه عملية السلام التي أضحت أكثر تأييدًا للسياسات الحدية المتطرفة لقادة أحزاب اليمين الإسرائيلية وهو ما يمكن الاستدلال عليه بنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب في يونيو الجاري والتي أشار فيها حوالي 71% ممن شملهم الاستطلاع أن تسوية القضية الفلسطينية لن تحقق الأمن لإسرائيل ورفض نسبة تقارب 54% الانسحاب من مزيدٍ من المناطق في الضفة الغربية باعتبار ذلك تهديد لأمن إسرائيل. وفي المقابل لا يرى الرأي العام الأميركي في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي مصلحة أميركية حيوية وهو ما أكدته نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة بيو لاستطلاعات الرأي في يناير 2009 متضمنة أن حوالي 48% من الأميركيين لا يفضلون انخراط الولايات المتحدة بصورة أكبر في مفاوضات التسوية بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

مساحات التوافق في خطابي أوباما ونيتنياهو

تكشف إعادة قراءة خطاب الرئيس أوباما في القاهرة وخطاب نيتنياهو في جامعة بار إيلان عن عدة قواسم مشتركة وجوانب واسعة للاتفاق بين الجانبين أهمها تأكيد أوباما على عمق وقوة أواصر الصلة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل وعدم إمكانية انفصامها لأي مبرر بما يعني أن الخلافات الراهنة لن تؤدي إلى توتر تلك العلاقات. كذلك الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وهو ما أكد عليه نيتنياهو بقوله :quot;إن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي وستظل هكذاquot; مبدأ أيده أوباما خلال خطابه في مقر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) إبان حملته للانتخابات الرئاسية في عام 2008.

أما الجانب الثالث للتوافق بين خطابي نيتنياهو وأوباما فتمثل في القبول المبدئي للمضي قدمًا في عملية السلام وهو ما أكد عليه أوباما بقوله quot;السبيل الوحيد للتوصل إلى تحقيق طموحات الطرفين يكون من خلال دولتين يستطيع فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سلام وأمن. إن هذا السبيل يخدم مصلحة إسرائيل ومصلحة فلسطين ومصلحة أميركاquot; وجاء رد نيتنياهو في خطابه بقبول دعوة الرئيس الأميركي مبدئيًّا بقوله:quot;أؤيد جدًا فكرة السلام الإقليمي التي يقودها. إنني أشارك الرئيس الأميركي رغبته في الانتقال إلى عهد جديد من المصالحة في منطقتناquot; معلنًا استعداده لحضور قمة في دمشق أو الرياض أو بيروت ودعوته للقادة العرب للتفاوض حول السلام.

ولقد أكد كلٌّ من أوباما ونيتنياهو على دور الدول العربية في مفاوضات السلام، حيث رأى أوباما أن مبادرة السلام العربية كانت بداية هامة إلا أن مسؤولية الدول العربية لا تنتهي بهذه المبادرة، وإنما يتحتم عليهم أيضًا مساعدة الشعب الفلسطيني على تطوير مؤسساته ودعم اعترافهم بشرعية إسرائيل، في مقابل تركيز نيتنياهو على العوائد الاقتصادية التي تجنيها إسرائيل من استئناف التفاوض ولا يرى دورًا للجانب العربي سوى في تقديم منافع اقتصادية لإسرائيل كمقابل لقبولها بإقامة دولة فلسطينية وهو ما عبر عنه بقوله:quot;إنني أناشد الدول العربية التعاون مع الفلسطينيين ومعنا للمضي قدمًا بالسلام الاقتصادي. إن السلام الاقتصادي لا يأتي بديلاً عن السلام السياسي لكنه يشكل مُقومًا هامًّا في إنجازهquot;.

كما تشارك الرئيس أوباما ونيتنياهو في تقييمهما السلبي لحركة حماس واعتبارها عقبة في طريق عملية السلام وهو ما أشار إليه نيتنياهو في عدة مواضع من خطابه بقوله: إن إسرائيل لن تقبل بأن تكون الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها حماسستان وأنها لن تتفاوض مع حركة حماس، في حين ألزم أوباما الحركة بالاعتراف بإسرائيل والاتفاقات السابقة ونبذ العنف لتنال الشرعية .

وفي السياق ذاته يظل توفير ضمانات لأمن إسرائيل والتصدي للتهديد النووي الإيراني أحد ثوابت خطابي أوباما ونيتنياهو، واتضح ذلك من إدانة أوباما الضمنية لتصريحات الرئيس الإيراني المعادية لإسرائيل وتأكيد نيتنياهو على أولوية التهديد النووي الإيراني واعتباره الخطر الأكبر الذي يواجه إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط.

الإستيطان عقدة الدور الأميركي في رعاية التسوية

أعلن نيتنياهو قبوله بإقامة دولة فلسطينية كنتاج لعملية التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أنه وضع عدة شروط لتحقيق ذلك الهدف أهمها أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح ولا تمتلك أي صلاحيات لعقد معاهدات عسكرية وأن يكون مجالها الجوي مفتوحًا لإسرائيل للرد على التهديدات الأمنية من جانب حزب الله وإيران أو بمعنى آخر ألا تتمتع الدولة الفلسطينية بسيادة كاملة. وأضاف نيتنياهو شروط أخرى تتعلق باعتراف الطرف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل واحتفاظ الأخيرة بالقدس كعاصمة أبدية بشطريها غير مقسمة ، كما اشترط نيتنياهو أن تحل قضية اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود دولة إسرائيل لتناقض ذلك مع استمرار إسرائيل دولة للشعب اليهودي.

وعلى الرغم من ترحيب الرئيس أوباما بقبول نيتنياهو بحل الدولتين واعتباره خطوة إيجابية إلا أنه استطرد قائلاً: إنه أرفق ذلك بعديدٍ من الشروط، وأن الشروط الأمنية لإسرائيل وشروط الفلسطينيين المتعلقة بالسيادة يمكن أن تحل بالمفاوضات موضحًا أنه يتوجب على الفلسطينيين الاعتراف بالطابع اليهودي لإسرائيل.

ويظل النشاط الاستيطاني الإسرائيلي القضية الأكثر إثارة للجدل بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي، حيث أكد الرئيس الأميركي في خطابه بالقاهرة على أن الولايات المتحدة لا تقبل بشرعية الاستمرار في بناء المستوطنات الإسرائيلية لأنها تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوض الجهود المبذولة لتحقيق السلام وأنه آن الأوان لتتوقف هذه المستوطنات، وهو ما لم يعارضه صراحةً نيتنياهو إلا أنه لم يقبله بصورة مطلقة وجاء خطابه - من ثم - مبهمًا حيال هذه القضية فلقد أكد أن قضية الأراضي ستكون موضع بحث في اتفاق الوضع الدائم وحتى ذلك الحين لا تنوي إسرائيل إنشاء مستوطنات جديدة أو مصادرة الأراضي لتوسيع المستوطنات القائمة، وهو ما لا يعني عدم الاستمرار في بناء المستوطنات التي تم البدء بها فعليًّا.

وفي هذا الصدد اتضح اتساع الخلاف بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي خلال لقاء وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مع نظيرها الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان في 17 من يونيو الجاري ، التي أكد خلالها ليبرمان على أن quot;إسرائيل لا يمكنها القبول بهذه الرؤية التي تنص على تجميد تام وكامل للاستيطان ويجب أن يكون بإمكاننا مواكبة النمو الطبيعيquot; في مقابل تأكيد هيلاري على ضرورة الوقف الكامل لعمليات الاستيطان باعتبار ذلك متطلب أساسي لدفع عملية السلام قدمًا.

و لقد بدا الخلاف الأميركي الإسرائيلي واضحًا أيضًا خلال إشارة نيتنياهو إلى أن quot;حق الشعب اليهودي في أن تكون له دولة لا ينبع من سلسلة الويلات التي ابتُلي بها .هنالك من يقول: إنه لولا وقوع المحرقة لما كانت دولة إسرائيل ستقوم، لكنني أقول: إنه لو قامت دولة إسرائيل في موعدها لما كانت المحرقة ستقع أصلاًquot; وهو رد واضح على ربط أوباما في خطابه بالقاهرة بين المآسي التي تعرض لها اليهود تاريخيًّا - على حد قوله ndash; وحقهم في إقامة دولتهم بقوله: إن الاعتراف بأن رغبة اليهود في وجود وطن خاص لهم هي رغبة متأصلة في تاريخ مأساوي لا يمكن لأحد نفيهquot;.

خطاب نيتنياهو خطوة للأمام أم للخلف

إن الخلافات الواضحة بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي لاسيما حول إصرار إسرائيل على الاستمرار في الأنشطة الاستيطانية تطرح تساؤلاً حيويًّا إمكانية تحقيق تقدم في مسار التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وقدرة إدارة أوباما على رعاية مفاوضات ناجحة بين الطرفين؟ ويجيب آرون ميللر الباحث بمركز ودروو ويلسون الدولي بقوله عملية السلام من غير المنتظر أن تحقق تقدمًا حقيقيًّا بالنظر إلى عدة عوامل أهمها الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس والرفض الإسرائيلي الواضح لتقديم أي تنازلات في القضايا الرئيسة للصراع ولذا يتحتم على إدارة أوباما ممارسة قدر متوازن من الضغوط على الطرفين مستدلاً باتباع الرئيس كارتر للسياسة ذاتها خلال المفاوضات بين مناحم بيجن والرئيس السادات وهو ما أدى لتوافق الطرفين وتوقيعهم لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

ويرى ستيفن كوك الباحث بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي أن الشروط التي وضعها نيتنياهو لن تكون مقبولة من جانب الطرف الفلسطيني وسوف تقوض من وضع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مواجهته مع حركة حماس وأنه بذلك أدى لتعقيد مسار عملية السلام وإضافة المزيد من العقبات التي تعترض جهود الرئيس أوباما، ألا أنه عاد ليؤكد على أن العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل لن تتأثر سلبًا بالخلافات الواضحة بين الطرفين وأن إدارة الرئيس أوباما لن تمارس ضغوط على حكومة نيتنياهو لتعديل موقفها تجاه قضية الاستيطان .

ومن ثم يمكن القول:إن الجهود الأميركية لدفع المفاوضات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لن تحقق تقدمًا ملحوظًا على المدى القريب بالنظر إلى استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني وانشغال إدارة أوباما في التصدي للتداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الأميركي ناهيك عن موقف حكومة نيتنياهو من عملية السلام الذي يقوم على استباق المحادثات بوضع شروط تعجيزية للطرف الفلسطيني ورفض تقديم أي تنازلات في القضايا الرئيسة وخاصة القدس والحدود ووقف الاستيطان وعودة اللاجئين.