ليس علامة دينية بل رمزا للتبعية والاستسلام والخنوع
حرية المعتقد هل تمنع ارتداء النقاب؟!

باريس: هي المرة الأولى منذ قرن ونصف من الزمن تقريبا التي يُسمح فيها لرئيس فرنسي بمخاطبة البرلمان، فإن الرئيس نيكولا ساركوزي وجدها فرصة مناسبة quot;لينفش ريشه ويعيد خلط الأوراقquot; من خلال الكلمة التاريخية التي ألقاها أمام مجلس نواب بلاده في فرساي يوم أمس الاثنين.

وقد رفض كل من أعضاء حزب الخضر والحزب الشيوعي حضور المناسبة، بينما غادر ممثلو الحزب الاشتراكي بشكل مبكر، متعذرين بأن المكان المخصص لإلقاء الكلمة، وهو قصر فرساي الذي كان مقرا سكنيا للملك لويس الرابع عشر، هو رمز للمَلكيَّة والتعطُّش للسلطة. إلا أن مهاجمة الرئيس الفرنسي للبرقع هي التي حرَّكت الأمور وأثارت عاصفة من النقاش والجدل الساخن.

فقد عبَّر ساركوزي عن نفوره الشديد من البُرقع الإسلامي الذي يغطي جسم المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، إذ اعتبر بأنه quot;ليس علامة على الدين، بل رمزا للتبعية والاستسلام والخنوعquot;.
وفي معرض حديثه عن البُرقع في كلمته، قال الرئيس الفرنسي: quot;هو ليس مرحَّب به على التراب الفرنسي. فنحن لا نستطيع أن نقبل في بلادنا نساء سجينات وراء شبكة، وبحيث يغدون معزولات عن المجتمع ومحرومات من كل كيان أو هوية. ليست تلك هي فكرة ومفهوم الجمهورية الفرنسية لكرامة النساء.quot;

لم تأت تصريحات الرئيس الفرنسي حول البُرقع عن عبث أو من فراغ، بل جاءت استجابة لدعوة أطلقتها الأسبوع الماضي مجموعة مكوَّنة من 65 نائبا ينتمون إلى كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان، ويقودهم النائب الشيوعي أندريه جيرين الذي يودُّ إنشاء لجنة تحقيق برلمانية للتحقيق بظاهرة انتشار البُرقع في فرنسا. فهؤلاء يريدون معرفة ما إذا كان مثل هذا الانتشار في ارتداء البُرقع مؤشرا على التطرف الإسلامي، أم أن النساء يُرغمن على تغطية أنفسهن، أم أنهنن يفعلن ذلك طواعية من تلقاء أنفسهن. كما يريدون مطلقو الدعوة أيضا أن يعرفوا ما إذا كان ارتداء النساء للبُرقع يقوِّض العلمانية الفرنسية أم لا.

ويعتقد جيرين quot;أن البُرقع يرقى إلى حد انتهاك الحرية الفردية على ترابنا الوطني.quot; وإن كان مجرَّد ذكر الملكية يؤدي إلى قرع أجراس الإنذار في فرنسا، فإن ذكر الدين يثير أصواتا حتى أعلى من ذلك بكثير فمفهوم العلمانية، أو quot;علمانية الدولةquot; هو شيء مقدَّس في فرنسا. ويسهر كافة الفرنسيين، بدءا من المدرسين وانتهاء بوزراء الحكومة، على حراسة مفهوم فصل الكنيسة عن الدولة، وذلك بدرجة تصل إلى حد الغيرة والمنافسة أحيانا. كما أن الدستور الفرنسي ينص على أن الجمهورية quot;لا تعترف ولا تدعم ولا تقدم تعويضات مالية لأي هيئة دينية.quot;

ويعتبر الفرنسيون أيضا أن مفهوم فصل الكنيسة عن الدولة يقوي الثورة الفرنسية ويشد من عضدها. كما أنه كان على الدوام أحد أركان الفكر التقدمي للبلاد منذ القرن الثامن عشر عندما كان مفكرو وأعلام عصر التنوير الفرنسي، من أمثال فولتير وديدرو ومونتيسيكويه، ينادون بمقولة quot;إن الدين يؤدي إلى التقسيم ونثر بذور الخلاف والشقاق، ناهيك عن كونه يجهِّل الناس ويعمي قلوبهم ويدخلهم في غياهب التعصب والفكر الرجعيquot;. لقد تم استحضار المفهوم ذاته قبل نحو خمسة أعوام من اجل حظر الاستخدام الجليِّ والواضح للإشارات والرموز الدينية في المدارس، بما في ذلك الحجاب الإسلامي. وقد أثار القرار حينئذ جدلا ونقاشا حادين في عموم أنحاء القارة الأوروبية، إذ زعم منتقدو القرار أنه أدى إلى وصم المسلمين بما هم ليسوا فيه، وذلك في وقت كانت تحتاج فرنسا فيه إلى تصعيد حربها على التفرقة العنصرية الرائجة في سوق العمل.

وأدَّى ذلك الأمر أيضا إلى شعور العديد من الشباب من ذوي الأصول الإسلامية بأنهم منسيون من قبل المجتمع الفرنسي. وقد دفعت الدعوة الأخيرة لحظر البُرقع رئيس المجلس الإسلامي في فرنسا لتحذير أعضاء البرلمان بأنهم يخاطرون بموقفهم هذا بوصمهم المسلمين مرَّة أُخرى بما هم ليسوا فيه. إلا أن الاستجواب الخاص بشأن البُرقع يحظى بدعم ومساندة دليل بوبكر، القائم على أمور مسجد باريس والرئيس السابق للمجلس الإسلامي، فهو يصر على القول دوما quot;يجب أن يكون الإسلام في فرنسا منفتحا ويدعو للبهجة والمرح وحب الاختلاط مع الآخرين، والسماح للناس بأن يعيشوا معا جنبا إلى جنب.quot;

ويخشى بوبكر من أن يكون الدليل الذي يدعو للسخرية، والقائل إن هناك ثمة عدد أكبر من النساء اللواتي يرتدين البُرقع في فرنسا، يستند إلى quot;الزيادة المبالغ بها بارتداء هذا النوع من الحجاب وازدياد حدَّة التطرف في أوساط بعض المسلمين,quot; ويضيف بقوله إنه مع وجود خمسة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، إذ أن البلاد تضم أكبر جالية إسلامية في أوروبا الغربية، يجب أن تكون الحكومة واعية ومتيقظة جدا من أجل ألاَّ تعزل السكان المسلمين لديها من خلال الظهور بأنها تسعى لكي تفرض على النساء ما يتعين عليهن ارتداؤه.
وقد سببت القضية أيضا شرخا وانقساما حتى داخل مجلس الوزراء الفرنسي. فقالت راما يادي، المسلمة ووزيرة شؤون حقوق الإنسان، إنها سوف تقابل بذهن منفتح موضوع فرض حظر على البُرقع، وذلك في حال كان الأمر يهدف إلى حماية النساء اللواتي يرتدينه رغما عنهنَّ أو ضد إرادتهن.

أمَّا إيريك بيسون، وزير شؤون الهجرة، فقال إنه يعتقد بأن من شأن فرض حظر على ارتداء البُرقع أن يخلق المزيد من التوتر فقط. نعم لقد قدَّم الرئيس ساركوزي دعمه ومساندته لإجراء حوار علني ومفتوح حول البُرقع، لكنه في الوقت ذاته أصرَّ على القول إن فرنسا تحتاج للتأكيد على أنها تعلم علم اليقين ما الذي تناقشه وتثير الجدل بشأنه. فقد قال ساركوزي: quot;يجب ألاَّ نخوض غمار المعركة الخطأ. ففي الجمهورية (الفرنسية)، يجب احترام العقيدة الإسلامية تماما بنفس القدر الذي نحترم فيه الديانات والعقائد الأُخرى.quot;