سلطان السعد القحطاني

1-

لأنها لا تبتسم، فإن هذه المدينة، التي تستلقي على رقعة من العشب الأخضر في غالب شهور السنة، لا تظهر أسنانها أمام الغرباء عن سبق إصرار وترصد، إذ لا يمكنك سوى أن تسمع صرير أسنانها حين يغالبها البرد مودة ورحمة في هذا الوقت من كل عام، وتشعرُ بها وهي ترتجف على مرأى ومسمع من خليج العقبة والبحر الميت الذي ينام في حضنها مثل طفل حديث الولادة.
*
تخيل أن لعمان جسد، وتخيل أنه جسد لدن، وتخيل أن لهذا الجسد منكبين عريضين، وتخيل كيف سيستطيع quot;بيير كاردانquot; أن يفصل لها معطفاً كبيراً يقيها من هذا البرد الأبريلي الذي يجعل من السماء كرنفالاً مجنوناً، ومن الأرض ورقة في مهب الريح والآلهة.
*

عمان في الليل
يقول لي سائقي، في دهاليز عمان، وشوارعها المصابة بالرشح والزكام، أن هذا الشعب هو شعب كئيب لا يبتسم للغرباء إلا وهو مجبر، وهذا فعلا ً ما تمكنتُ من اكتشافه سريعاً، إذ يبدو إن هنالك ضرائب تفرضه الحكومة على الابتسامات والكلام المداهن في عاصمة الحكم الهاشمي التي تعاني من الجفاف النفسي رغم الخصوبة الظاهرة، فلا أسوأ من أن تكون مشكلتك المؤرقة داخل الداخل في نسغ تكوينك الخلقي.
*
وعمّان بني هاشم أصبحت quot;عمّانينquot;.. فواحدة تقليدية ترى سكانها وهم يرتدون لباس الفرنجة المعرّب، وهو المكون من بدلة وربطة عنق، وفوقها الكوفية الحمراء المرقطة، وتصدح في أرجائها اللهجة الأردنية المخلوطة بشيء من الفلسطينية، وعمّان أخرى وافدة لا ترتدي الكوفية، بل تترك رأسها مفتوحاً للسماء، وتتحدث العراقية، وتصدح بمواويل بغداد، وحزن الفرات، ودجلة المصاب بالضمور.
*
المهاجرون هنا يتناسلون من بعضهم بعض، وكل دفعة آتية تلقي باللوم على التي بعدها في غلاء أسعار المواد التموينية، وارتفاع رسوم الجامعات التعليمية، وزحمة السير، وربما الطقس، حين يبالغون ويزدادون شططاً.

وبعد أن كان المهاجرون الفلسطينيون ndash; الذين يثيرون التذمر الشعبي هنا- يشكلون الشريحة الأكبر من سكان المملكة الأردنية، فإن التفوق أضحى حليفاً للجالية العراقية الهاربة من الاحتلال الأميركي لبلاد ما بين النهرين، مما حول التذمر الشعبي العارم من القادمين الغرباء إلى تذمر داخلي بين المهاجرين أنفسهم، لا الأنصار من سكان البلاد الأصليين.
*
وليلُ عمّان عراقي بامتياز، الأمر الذي يجعل من صورة المملكة، كبلاد أردنية خالصة، مموهاً إلى حد كبير، إذ تملأ سماء العاصمة المرتعشة مواويل بغداد الأسيرة، و قطائف الحزن العراقي المعتّق، وعويل ناظم الغزالي المزمن، وما في طريقه من صنوف المن والسلوى الموسيقية التي تزخر بها البلاد التي قيل بأن العود حينما صنع بكى فيها حتى شحب جسده !!
*
وعمّان مدينة قبلية معولمة يفد إليها السياح القبليون من دول الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية من خلال بوابتها الشمالية التي يشتبك سكانها مع سكان جنوب الأردن في أواصر قبلية وعائلية وفكرية، ولا تستغرب إذا سمعت أن سائق تاكسي أردني رفض أن يأخذ أجرة توصيله لأن زبونه كان من نفس قبيلته، حتى وإن اختلفت جوازات السفر، أو فرقتهما الحدود.
*
ولا تستغرب إذا قال لك مسؤول فندقك الذي تقيم فيه بأن كل يوم ستحصل المخابرات على أسماء زوارك اليوميين وأسمك البهي طالما ظللت هنا، فهذا جزء من العملية الأمنية التي يريد من خلالها جهاز المخابرات التحول إلى مسطرة أمان داخلية، وحزام ناري ضد الخارج، وخصوصاً الأفكار الملتحية التي تثير الرعب والتدمير والكره.
*
ونصف العاصمة الأردنية ينام باكراً، بينما النصف الآخر يظل في غيبوبة صحوه.
ونصف العاصمة الأردنية يرفلُ في حرير ملبوسات أوروبا، بينما يظل النصف الآخر مشرداً في الريح والآمال العتيقة على حصيرة رمادية اللون مغبرّة، أكل عليها الزمن و
ونصف العاصمة الأردنية ينام تحت خط الفقر، ويستيقظ على الخط ذاته، ويخشى تمام الخشية في أن يفقد هذا الخط الذي أصبح quot;هاتف السحرquot; الوحيد لاتصاله مع العالم المعولم من حوله.
*
ومن يوقظ عمان صباحاً غير أبواق السيارات،
ومن يهدهد ظهيرتها الرائقة، سوى رائحة الدخان المحترق من عوادم السيارات، ومن غياهب النفس البشرية الأمارة بالسوء.. ؟
كل ذاك ليس مهماً، بل الأهم هو:
من يغني لها،
ومن سوف يؤدي دور الراقص معها حين يتطلب quot;التانغوquot; ساقين خفيفتين كريشة طائر ثائر،
ومن سيكتب لها قصائد العشق، وموال لوعة الحب، وثيمة الحزن المكين والمستقر،
ومن سوف يهدي لها وردة حين يغادر العشّاق من متردّمِ،
ومن سيشرّع لها صدره آناء الليل وأطراف النهار مثل فوهة بركان مليئ بالعواطف،
ومن سيتزوجها حين يتطلب الأمر فارساً قادماً من صلوات الأمل، وفجر الحرية، وحلم المستقبل، سوى ملك شاب من بني هاشم بذقن خفيفة، ولكنة أردنية معتقة، وعقال مائل على رأس الكوفية الحمراء، وابتسامة تحمل الفجر الجديد..
.......
رضي الله عنك يا أبن الحسين وأرضاك !!