قلب الطالب الاميركي الممشوق القوام ريتشارد "ديك" فوسبيري موازين الوثب العالي ومعادلاته المتعارف عليها وتقنياته المعتمدة، فقد تخطى العارضة مرتقيا على ظهره ومسجلا رقما جديدا مقداره 24ر2 م خلال دورة مكسيكو 1968، مسطرا نقلة جديدة في التطور الرياضي.

بعد يومين فقط من قفزة مواطنه بوب بيمون التاريخية في الوثب الطويل ضج ملعب الازتيك مرة اخرى امام قفزة جديدة. فقد ذهل المتفرجون عندما شاهدوا فوسبيري يقفز في مسابقة الوثب العالي وظهره الى العارضة بينما كان سائر المتسابقين يثبون بالعكس! وكان من الممكن ان تبقى هذه التقنية الجديدة تجربة جهيضة لو لم يصل صاحبها الى مبتغاه: النصر.

ارتفاع 24ر2 م كان كفيلا بادخال قفزة فوسبيري التاريخ لتبقى فيه.

والحال ان الشاب الاميركي ابن المهاجرين الانكليزيين ما كان ليحقق ما حققه لولا عناده. وهو كان خلال تدربه في الجامعة يرفض القفزة الامامية ويصر على القفز بطريقة المقص. وفي سن التاسعة عشرة كان يتخطى ارتفاع مترين بانتظام، ومع ذلك لم يكن مدربه يهتم به كثيرا غير مؤمن بامكان تحويله بطلا.

حل فوسبيري خامسا في بطولة الجامعات الاميركية عام 1967 محققا 10ر2 م، ثم تأهل لاولمبياد مكسيكو بقفزة ارتفاعها 21ر2 م ما جعله أحد المرشحين بقوة لاحراز الميدالية الذهبية.

في الالعاب الاولمبية التي كانت خروجه الاول من الولايات المتحدة حقق فوسبيري 24ر2 م بعيدا اربعة سنتيمترات من الرقم العالمي للسوفياتي فاليري بروميل، لكنه تخطى الرقم الاولمبي للبطل السوفياتي. وعندها فقط اقتنع الجميع بأن فوسبري مشروع بطل كبير.

والغريب ان فوسبيري لم ينظر الى الرياضة الا كهواية ووسيلة ترفيه. وبقي البطل الذي ابتكر تقنية جديدة تحمل اسمه، فيما كان كانسان عادي يجهد لتخطي نوبة كآبة اصابته وليعود ليستقر في ولاية ايداهو مع زوجته وولدهما ليعمل مهندس طرق وجسور.

وهو فوت فرصة العودة والمشاركة في دورة ميونيخ 1972، فانتهت مسيرته الرياضية لتبقى قفزته مستمرة، علما انه بتواضعه الجم يقول انه لو لم يبتكر وثبة الظهر لكان احد سواه فعل ذلك بالتأكيد.

اعاد فوسبيري "اختراع" الوثب العالي، خلال قفزته الثورية بدت كل حركة في جسده واطرافه تفصيلا قائما بذاته. حين هم بالانطلاق اشرت حركة انقضاضه على استخدام طريقة المقص العادية، لكنه فجأة استدار واصبح ظهره الى العارضة.

لم يفوت فوسبيري مناسبة خوضه مسابقته الدولية الاولى، فقلب الموازين. كان يعتقد ان المدرسة السوفياتية (الوثب والبطن الى العارضة) هي الافضل، خصوصا انه كان مجهولا قبل عام من العاب مكسيكو حيث تطورت ارقامه تصاعديا: 18ر2 م و20ر2 م و22ر2 م ثم 24ر2 م وهو رقم قياسي اميركي. وحطم النظريات الراسخة.

في مكسيكو، كان يوري دياتشكوف مبتكر اسلوب المقص الذي اعتمده افضل المدربين في العالم، شاهدا على وثبة فوسبيري. فالتقط صورا كثيرة بكاميرته لحركاته مبديا استغرابه واعجابه في آن.

في البداية، اعتبر دياتشكوف الاسلوب الجديد لافتا للنظر ممتعا للعين والمتفرج. واستدرك مضيفا: "لكنه اسلوب شخصي بالدرجة الاولى ولا اظن انه سيؤثر على مستقبل هذه اللعبة". غير ان اعتقاده كان خاطئا.

فور عودته الى موسكو، انكب دياتشكوف على دراسة الظاهرة الجديدة، لكن الاهم ان هذه الوثبة اعطت الولايات المتحدة لقبا غاب عنها منذ عام 1956... وسريعا اصبح لفوسبيري مقلدون.

بعد سنوات من اعتزاله وقد اصبح رئيسا للاتحاد الدولي للاعبين الاولمبيين، ذكر فوسبيري انه كان في صغره يثب بالطريقة التقليدية (المقص) "ووجدتها غير فعالة فاحببت التغيير في احدى المنافسات ووجدت هذه الطريقة الجديدة مريحة في تجاوز العارضة وارتفعت خلالها 15 سنتم، وقد كنت اللاعب الوحيد الذي يستخدم هذه الطريقة في اولمبياد 1968. كان الصمت يعم الميدان بسبب الطريقة الجديدة التي وجدت بعدها ترحيبا وتشجيعا كبيرين في الالعاب".

وأضاف: "اللاعبون الآخرون احترموا طريقتي لكن لم تكن لديهم الشجاعة لتطبيقها حتى حققت الرقم القياسي، فتجرأ بعدها كثيرون على اعتمادها، وحاليا انظم دورات في اميركا ومختلف بلدان العالم للاعبين والمدربين، واشرف على ثلاثة معسكرات تدريبية في الصيف احاول من خلالها ان ازرع في اللاعبين الصغار متعة الرياضة".

 رباعي الذهب 

دخل الاميركي الفرد "آل" اورتر التاريخ الاولمبي عندما صار الرياضي الاول الذي يفوز باربع ميداليات ذهبية متتالية في مسابقة واحدة هي رمي القرص. وقد حقق ذلك في دورات ملبورن 1956 وروما 1960 وطوكيو 1964 ومكسيكو 1968.

ولد اورتر في استوريا ودرس الهندسة المعلوماتية في جامعة كنساس وعمل لاحقا مهندسا الكترونيا في مصنع للطيران في نيويورك. وكان في العشرين عندما فاز بذهبيته الاولى في ملبورن متفوقا على مواطنه فورتشون غورديان حامل الرقم القياسي العالمي آنذاك والمرشح الاول للفوز، اذ رمى البطل الشاب "الثقل" 36ر56 م، علما ان رقمه الشخصي الاول بلغ 77ر52 م وحققه عام 1955.

بعد ابتعاده عن الساحة الرياضية وتأهله بشق النفس الى اولمبياد روما، نجح العملاق الاميركي (90ر1 م) الذي كان يدربه بطل سباقات الضاحية السابق بيل ايستن، في استعادة مستواه في "المدينة الخالدة" ونال لقبه الاولمبي الثاني راميا القرص مسافة 18ر59 م.

ولمواجهة المنافسين الذين كانوا يشتدون بأسا، راح اورتر يزيد وزنه ويقوي عضلاته حتى وصل الى 120 كلغ. وفي 1962 حطم الرقم القياسي العالمي للمرة الأولى راميا 10ر61 م وكرر الانجاز بعد بضعة أشهر (62ر62 م).

وصل اورتر الى دورة طوكيو 1964 مهيض الجناح، فقد كان مصابا بتمزق في عضلات الظهر ومنزويا في الظل بعد بروز التشيكوسلوفاكي لودفيك دانيك حاملا الرقم القياسي العالمي الجديد (54ر64 م). ولكن هنا يبرز البطل الحقيقي، فقد تمكن اورتر من انتزاع الذهبية برمية بلغت 61 م في مقابل 52ر60 م لخصمه.

وانكفأ اورتر بعد ذلك مجددا وترك الساحة لرماة المان شرقيين ولمواطنه جاي سيلفستر الذي بات صاحب الرقم القياسي العالمي.

بيد ان اورتر عاد ليشارك في مكسيكو 1968. وقد افاد بخبرته من الطقس العاصف الذي سبق النهائي، وبدل اسلوبه لدى الرمي وتخطت ثلاث من محاولته مسافة 64 م، وتمكن من تحقيق مسافة 78ر64 م محطما رقمه الشخصي (22ر63 م) ضامنا بذلك ذهبيته الاولمبية الرابعة ودخوله تاريخ الالعاب من بابها الأوسع.