لعل أسعد لحظات العاب دورة مونتريال عام 1976 كانت منافسات الجمباز التي حملت "روائع" السوفياتية نيللي كيم في الحركات الأرضية، والاثارة المتناهية مع الرومانية الصغيرة ناديا كومانتشي التي قلبت المقاييس كلها، وباتت اول من تحصل على العلامة الكاملة (10 على 10) على اكثر من جهاز.
كانت كومانتشي الاستثناء الذي "استحق" هذه الدرجة 7 مرات متتالية، وانهت المسابقة بحصولها على ثلاث ذهبيات (الفردي العام والعارضة والعارضتان غير المتوازيتان) وفضية (الفرق) وبرونزية (الحركات الارضية)، ممهدة الطريق امام جيل جديد من "الجمبازيات" الرومانيات تحديدا، ومحلقة بشهرتها بسرعة قياسية.
والطريف ان لوحات النتائج لم تكن مجهزة ليظهر عليها الرقم 10، ما اضطر المنظمون للاشارة الى اعتماد 00ر1 على انه 10.
وكل من احب الجمباز اراد تقليد كومانتشي والتمثل بها، تلك الصغيرة الناعمة التي تخطت بشهرتها وخطفها الاضواء من السوفياتية اولغا كوربوت نجمة العاب ميونيخ 1972.
كانت كومانتشي (56ر1 م و41 كلغ) تطير فرحا في كل مرة تمنح علامة كاملة، ثم تسرع لتجاور زميلاتها وتتابع العروض. ولما سئلت عن معنى حصولها على العلامة الكاملة وماذا تحضر للمستقبل؟ اجابت بعفوية: انتصارات اخرى والقاب اخرى وميداليات اخرى. واضافت: "علي ان اتطور اكثر، حصلت على العلامة الكاملة في الحركات الاجبارية. وخلال مسيرتي بلغتها 19 مرة، وبالتالي لم احقق شيئا جديدا مميزا".
واللافت ان نجم كومانتشي الساطع شع في مجرة السوفياتيات الكبيرات: كيم وكوربوت ولودميلا تورتيشيفا وماريا فيلاتوفا، اللواتي شكلن افضل فريق في العالم.
قبل عامين من الالعاب لم ينتبه احد لاسم كومانتشي، فظهورها العالمي الاول كان خلال بطولة العالم في مدينة فارنا البلغارية عام 1974، حيث لاحظ خبراء اللعبة هذه الرومانية الصغيرة وتوقعوا ان تبهر العالم بعد فترة وجيزة.
لم تكن كومانتشي حينها قد بلغت الرابعة عشرة (مواليد 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1961)، وبالتالي لا يحق لها بحسب قوانين الاتحاد الدولي للجمباز المنافسة عالميا. وبعد شهر، حصدت لقب دورة دولية في لندن. وفي ايار/مايو 1975، تخطت السوفياتية كيم والالمانية الشرقية انيلور زنكه خلال بطولة اوروبا التي اجريت في مدينة سكين النروجية.
وفي اولمبياد موسكو عام 1980 ظهرت ناديا مختلفة، فالفتاة الصغيرة تحولت الى امرأة شابة يبلغ طولها 60ر1 م ووزنها 50 كلغ. وكان واضحا انها فقدت الكثير من ديناميتها واكتفت بلقبي الحركات الارضية والعارضة واحتلت المرتبة الثانية في المسابقة العامة... وهذه طبعا ليست نتيجة سيئة.
بدأت كومانتشي مزاولة الجمباز في سن السادسة واختيرت لمنتخب بلادها وهي في الثانية عشرة. وفي سن الحادية عشرة كانت تتدرب 4 ساعات يوميا في معهد جورجيو - ديج (400 كلم من بوخارست)، اول مركز تدريب في رومانيا. فقد تولاها منذ سن السادسة التقني بيلا كاروليي المشهور بانضباطه الصارم وقسوته الاسطورية، وذلك بعدما اخضعت لمختلف الفحوص المخبرية وصور الاشعة للوقوف على صحة اعضائها وسلامة نموها.
وكانت رومانيا الحاصلة على برونزية الفرق في اولمبيادي 1956 و1960، شهدت تراجعا كبيرا في الجمباز ما حدا بالحكومة الى اقرار خطة تطوير ونهوض تتضمن اقامة مراكز اعداد وتخريج مواهب منتقاة من المدارس. وسريعا، اضحت رومانيا من اعمدة الجمباز عالميا.
والى التدريب المكثف، اعتمدت كومانتشي حمية غذائية ترتكز على البروتينات والحليب والاجبان والفواكه وتحظر السكر والخبز.
وامتازت بقوام طيع يؤدي كل حركة بدقة متناهية حتى الكمال. ومقارنة بالسوفياتية كوربوت، فان اسلوب الاخيرة كان يشع مرات خلال تأدية العرض، بينما كان عرض كومانتشي حلقة براقة متكاملة من بداية الفقرة حتى نهايتها، وجملة متواصلة متناسقة ومنسجمة لا وقت ضائعا فيها.
وعلى جهاز العارضة مثلا، كانت كومانتشي تتحدى معادلات التوازن على عرض 10 سنتم بفضل قوة فخذيها الاستثنائية واعدادها العالي بدنيا ونفسيا، وتكرر حركة تلقائية 15 مرة من دون انقطاع.
مع كومانتشي اصبحت حركات الجمباز "فقرات راقصة" تسمو بالاحاسيس فتنتشي النفوس، وجعلت العروض شبيهة بالتزحلق الفني على الجليد، فبلغت ابعادا غير مألوفة اكسبتها شعبية كبيرة.
العالم الجديد
عام 1981 فر كاروليي وزوجته مارتا الى الولايات المتحدة خلال جولة عروض لنجوم المنتخب الروماني وبينهم كومانتشي، وساهم في انتصارات فريقها للجمباز في دورة لوس انجليس 1984 وابرز وجوهه ماري لو ريتون.
وحذت كومانتشي حذو مدربها عام 1989 بعد رحلة مموهة عبر المجر والنمسا. وكان السبب الرئيس وراء ذلك الاهتمام الزائد الذي ابداه بها نيكو ابن الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو، الذي وصل الى حد فرض رقابة عليها من الشرطة المحلية "سيكوريتات"، اضافة الى المراقبة اللصيقة خشية فرارها.
لكنها لم تنس وطنها الأم، فما ان سقط النظام بسقوط تشاوسيسكو قدمت مساعدة مالية للاتحاد الروماني للجمباز وقامت بنشاطات خيرية واجتماعية عدة، ولا تزال تسهر عليها. وقد استقرت لاحقا في الولايات المتحدة بعد اقامة قصيرة في كندا، وتزوجت عام 1996 من الاميركي بارت كونر بطل دورة لوس انجليس في العارضتين المتوازيتين وفي الفرق، وانجبت منه عام 2006 وحيدهما ديلان-بول. وبعد اعتزالها تقديم العروض، دربت في مركز الجمباز الذي يديره زوجها في أوكلاهوما سيتي، حيث يقيمان.
اختيرت كومانتشي رياضة القرن ال20 في الجمباز. وتولت مناصب رياضية عدة منها سفيرة رومانيا للرياضة وعضو الاتحاد الدولي للجمباز والرئيسة الفخرية للجنة الاولمبية الرومانية، وحازت على تنويهات وتكريمات عالمية منها وسام الاستحقاق الاولمبي (اعلى وسام اولمبي) وكانت اصغر من يتقلده، كما انها الشخصية الوحيدة التي نالته مرتين في عامي 1984 لمناسبة اعتزالها و2004. وهي قنصل فخري لبلادها في الولايات المتحدة. كما انها اول رياضية تتحدث من على منبر الامم المتحدة في نيويورك (1999).
اعدت كومانتشي كتابا يحمل عنوان "رسائل الى لاعبة جمباز شابة"، اجابت فيه على اسئلة طرحها انصارها عليها. وانجز الن كووك فيلم "ناديا" المستوحى من سيرتها ومسيرتها.
التعليقات