يخوض الفرنسيون منذ أشهر سجالاً محتدمًا محوره هويتهم الوطنية وإمكانية حظر البرقع. ويبدو ان وزير الهجرة اريك بيسون، وهو اشتراكي سابق، كان وراء تفجير هذا السجال الساخن ليصبح من أكثر السياسيين الفرنسيين اثارة للجدل.
يدور السجال حول قيم الجمهورية والأمة الفرنسية والبرقع وما تفخر به فرنسا وتعتبره مهمًا عندها. ومنذ ثلاثة اشهر اطلق وزير الهجرة مناظرة في ما سماه quot;الوطن الأم لحقوق الانسانquot;. وكان بيسون على اقتناع بأن مفهوم الأمة سُلِّم الى اليميني المتطرف جان ماري لو بن والجبهة الوطنية التي يتزعمها.
يدور النقاش حول حقوق المسلمين وواجباتهم وقبولهم قيم الغرب. ولا يقتصر السجال حول منع البرقع على فرنسا بل يجري في الدنمارك وايطاليا ايضًا، وفي كانون الأول/ديسمبر صوّت السويسريون في استفتاء ضد بناء المآذن.
ولكن مجلة شبيغل اونلاين لاحظت ان من الصعب اجراء النقاش بطريقة موضوعية مشيرة الى انه يدور في اطار محاولة لاستبعاد المسلمين في بلدان متعددة. فان مواطنين وسياسيين وصحافيين انخرطوا في نقاشات صاخبة وفي بعض الحالات نقاشات عنصرية حول حجم المظاهر الاسلامية المسموح بها في الحياة اليومية العامة للجمهورية الفرنسية ومدى فرنسية الخمسة الى ستة ملايين مسلم الذين يعيشون في فرنسا، او ما ينبغي ان يكونوا عليه من فرنسية.
وسرعان ما وجد الرقيب في الموقع الالكتروني الذي فتحه وزير الهجرة الفرنسي لخوض السجال عليه، ان من الضروري محو الكثير من الرسائل المعادية للأجانب. وفي منتديات المواطنين التي نظمتها وزارة الهجرة في عموم فرنسا اعرب كثير من الفرنسيين عما سموه quot;الخوف من هيمنة العربquot;.
وقال عمدة مارسيليا في احد هذه المنتديات انه راض على سكان المدينة المسلمين ولكنه ليس سعيدًا بحقيقة تظاهرهم مؤخرًا في الشوارع حاملين العلم الجزائري بدلاً من العلم الفرنسي بعد فوز فريق محلي في مباراة بكرة القدم. واعتذر وزير الهجرة بيسون لاحقًا عن زلة لسان العمدة.
على امتداد اشهر اتهمت المعارضة الاشتراكية بيسون باستخدام السجال حول الهوية الوطنية للتستر عمدا على مشاكل فرنسا الحقيقية من عجز الميزانية والدين العام الضخم والبطالة ووعود ساركوزي الذي فاز بالرئاسة تحت يافطة quot;رئيس القوة الشرائيةquot;. وترى المعارضة ان الهدف الوحيد من حملة بيسون هو ابعاد هذه المشاكل الملحة عن الأجندة السياسية قبل الانتخابات الاقليمية في آذار/مارس المقبل. هؤلاء المنتقدون يعرفون بيسون فهو كان اشتراكيًا مثلهم قبل ان يختلف مع مرشحة الحزب للانتخابات الرئاسية سيغولين رويال حتى ان الاشتراكيين نعتوه بالخيانة منذ انقلابه على الحزب.
ويقول بيسون في الاجتماعات العامة التي يتحدث خلالها انه يريد ان يكرس الاعتزاز بالهوية الفرنسية بل انه يفكر في ربط منح الجنسية الفرنسية بإبرام quot;عهد مع الجمهوريةquot;. واندمج السجال الذي يرعاه بيسون حول الهوية بالجدال الدائر حول قضية أخرى هي السماح للمرأة المسلمة بارتداء غطاء الوجه الكامل أو البرقع في الأماكن العامة. إذ يحتج خصوم البرقع بأنه يتعارض مع قيم الجمهورية ولا ينتمي الى فرنسا العلمانية التي اصدرت قانونًا يمنع الحجاب في المدارس منذ العام 2004.
يوم الثلاثاء الماضي حين كان الرئيس نيكولا ساركوزي وبيسون يؤبنان جنديًا مسلمًا قُتل في افغانستان اوصت لجنة برلمانية بمنع البرقع والنقاب في سائر الأماكن العامة والدوائر الرسمية والمستشفيات ومكاتب الخدمة الاجتماعية والمدارس ووسائل النقل العام. وتركت للبرلمان ان يحول التوصية الى تشريع.
في الظاهر كانت مهمة اللجنة تحديد ما إذا كان البرقع يمس بكرامة المرأة ام لا. ولكن القضية الحقيقية تتعلق بقضية أهم هي مقدار ما يمكن ان تطيقه فرنسا العلمانية من الاسلام، بحسب شبيغل اونلاين، ناقلة عن وزير الهجرة قوله quot;اعتقد ان علينا ان نمنع البرقع لمصلحة المرأةquot;. وكان ساركوزي قدطالب بمنعه في حزيران/يونيو العام 2009 عندما قال ان البرقع ليس مرحّبًا به في فرنسا. وهزت عقيلته كلارا التي كانت جالسة بجانبه رأسها بالموافقة.
قابلت اللجنة البرلمانية اكثر من 150 خبيرًا وناقشت ما إذا كان البرقع من فروض الدين بل نظرت حتى في المحاجَّة القائلة ان منع البرقع يمكن ان يؤدي الى تحسين الأمن. ولكن هذا كان من شأنه أن يعني شمول السعاة الذين يستخدمون الدراجات النارية وافراد مهن اخرى بمنعهم من ارتداء غطاء الرأس الذي يحدد مجال الرؤية.
وتنقل شبيغل اونلاين عن عالم الاجتماع فنسان غيسر quot;ان السجال حول البرقع مرتبطًا بالنقاش حول الهوية الوطنية، يسهم في تجذير مواقف المسلمين المعتدلين المتدينينquot;. ويرى غيسر ان منع البرقع بقوة القانون يمكن ان يحول المرأة المسلمة الى ضحية حتى أكبر منها اليوم.
يبدو ان بيسون فقد السيطرة على السجال الذي اطلقه بنفسه، ويخشى حتى المحافظون الآن من اضرار الحملة الدعائية. كما ان ترقيته الى نائب زعيم حزب الاتحاد من اجل حركة شعبية المحافظ الحاكم اثار مخاوف داخل الحزب حيث يتساءل مخططوه الاستراتيجيون ما إذا كان نسخ شعارات اليمين المتطرف لن يفعل سوى تعبئة انصار الجبهة الوطنية بزعامة لو بن خلال الانتخابات الاقليمية.
في هذه الاثناء غيَّر ساركوزي لهجته منذ بداية العام عندما دعا الى الوحدة الوطنية وطلب من الفرنسيين ان يخوضوا السجال quot;دون تمزيقنا اربا ودون اهانتنا ودون تقسيمناquot;.
ومن المتوقع ان يضع الرئيس نهاية للنقاش حول الهوية الوطنية يوم الخميس المقبل. كما أُرجئ الجدل حول البرقع الى ما بعد الانتخابات. في غضون ذلك سينظر المجلس الدستوري في ما إذا كان المنع حتى مقبولاً دستوريًا. ولكن السؤال هو ما إذا كان بالامكان انهاء السجال بالسرعة التي أُطلق بها، وما إذا كان ضررًا لا يمكن اصلاحه لحق بالعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في فرنسا.
التعليقات