لبنان يتوحّد لوداع رجل الحوار والاعتدال الديني

وفاة المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله

حال فضل الله يثير الجدل في مرضه الشديد كما في عافيته

سار عشرات الالاف من الاشخاص في موكب تشييع المرجع الشيعي العلامة محمد حسين فضل الله الثلاثاء في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث ووري الثرى وسط حداد وإقفال عام في البلاد اعلنته الحكومة اللبنانية.

بيروت: بدأ المشيعون بالتجمع باكراً في احياء الضاحية الجنوبية، وانطلقوا في مسيرة وراء النعش عند الساعة 13:30 (10:30 ت غ) من أمام منزله في حارة حريك، وجابوا شوارع الضاحية الجنوبية لاكثر من ساعتين قبل الوصول الى مسجد الامامين الحسنين حيث اقيمت الصلاة قبل مواراته الثرى.

ونقل جثمان الراحل الى قاعة سفلية داخل المسجد حيث اقيمت الصلاة بوجود افراد العائلة والقريبين، بعيدا من عدسات وسائل الاعلام. ودفن في باحة المسجد كما ذكرت وكالة الانباء الفرنسية. وكان موكب التشييع توقف في محطات عدة بينها منطقة بئر العبد حيث تعرض العلامة الراحل لمحاولة اغتيال العام 1985 اودت بحياة ثمانين شخصا.

ووضعت عمامة فضل الله على النعش الذي حمله انصاره ومحبوه وسط غابة من البشر وتدافع وطقس حار للغاية. وحاول العديدون لمس النعش الذي كان يتقدم بصعوبة، وسط هتافات quot;لبيك يا حسينquot; وquot;لا اله الا الله والسيد حبيب اللهquot;.

وذرفت النساء اللواتي لبسن بغالبيتهن الاسود، الدموع بغزارة، فيما اغمي على بعض المشاركين، وعمد عدد من سكان الابنية المحيطة بالموكب الى رش المياه على رؤوس المشيعين. وارتفعت اصوات تسجيلات ادعية وخطب بصوت العلامة الراحل، فيما علقت في الشوارع لافتات ضخمة مع صور لفضل الله كتب عليها quot;انا لله وانا اليه راجعونquot; وquot;استودعكم اللهquot;.


وزار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أمس عائلة الراحل الكبير في مستشفى بهمن، حيث قدم تعازيه للعائلة ومواساتها كما قرأ الفاتحة على جثمان الفقيد. وأصدر مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني قرارًا بإقفال دار الفتوى والمديرية العامة للأوقاف الإسلامية اليوم حدادًا. وقد وصف رئيس حزب الكتائب أمين الجميل فضل الله بأنه quot;وجه وطني مشرق، ومن أكبر رجالات لبنان الذين عملوا من أجل الوفاق والانفتاحquot;.

واعتبر ان غيابه quot;خسارة كبيرة ليس للطائفة الشيعية فقط، انما على الصعيد الوطني ككلquot;، مضيفًا quot;اننا نرى في الفقيد رمزًا من الرموز الوطنية الكبيرة، ولا يخص طائفة انما كل لبنان لما لعبه من دور طيلة هذه الفترة لمصلحة لبنان العلياquot;.

ورفعت الاعلام السوداء وصور المرجع الشيعي في كل المنطقة. وشاركت وفود عربية واسلامية في تشييع المرجع العلامة. وقدم التعازي وفد ايراني يتراسه رئيس مجلس صيانة الدستور احمد جنتي، ووفد من وزارة الاوقاف السورية، اضافة الى نجل امير قطر الشيخ جوعان بن حمد آل ثاني.

وتولى عناصر quot;الانضباطquot; في حزب الله بلباسهم الاسود وقبعات تحمل صور فضل الله تنظيم المرور ومواكبة الجموع في معقل الحزب الشيعي. واعلن مجلس الوزراء الثلاثاء يوم حداد وطني. واقفلت المحال التجارية والمؤسسات الرسمية وشلت الحركة في عدد من المناطق. وتوفي فضل الله الاحد عن خمسة وسبعين عاما نتيجة اصابته بنزيف داخلي حاد.

ونعت السيدة نازك الحريري، أرملة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، فضل الله، كما تقدمت بالتعزية الى quot;اللبنانيين والمسلمين في كل مكان بغياب مرجع ومرشد وإنسان كرّس حياته دفاعًا عن الإسلام وقيم الحق والخير والتسامح والاعتدالquot;.

وأضافت في بيان أصدرته أمس quot;ان لبنان والأمة الإسلامية خسرا رجل علم وفكر وحكمة، وكان حارسا للأمن الوطني والوحدة الوطنية، والتزم طوال مسيرته بمقاومة القهر والظلم والتطرف، متّخذًا من لغة الحوار والمنطق سبيلا لدرء الفتنة عن الوطن ووسيلة للتوفيق بين اللبنانيين مسلمين ومسيحيينquot;.

وقال رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة quot;ان لبنان والعرب والمسلمين خسروا بوفاة المرجع العلامة محمد حسين فضل الله خسارة فادحة وكبيرة لما كان يمثله من قيمة وطنية وإسلامية بالغة الأهمية في لبنان ولدى العرب والمسلمينquot;.

وتابع quot;ان العلامة الراحل كان وسيبقى بفضل علمه وتنوره ومواقفه علامة فارقة وكبيرة في لبنان، فقد كان رمزًا إسلاميًّا للحوار والصراحة، إضافة الى الشجاعة في قول الرأي الواضح والمتقدم، حتى ولو كان مخالفًا لما اعتاد بعضهم على ممارستهquot;.


ولاحظ السينورة quot;ان فضل الله بنى في فتاواه ومواقفه عمارة كبيرة وضخمة في ممارسة سلوك الاعتراف بالآخر والتحاور معه، كما أرسى مداميك وتقاليد استمرار التواصل وقبول رأي الآخرين، لكنه في الوقت ذاته قارع الحجة بالحجة، واستند الى المنطق العقلي وحارب السلبي من الممارساتquot;.

وأشار الى quot;ان أبرز علاماته مواقفه وتصرفاته التي تؤكد التمسك بأسس الإسلام الواضحة والدفاع عنها والانطلاق من الانتماء العربي والاسلامي لتوطيد العلاقة مع الآخرين ومساندة قضايا المظلومينquot;.

واعتبر النائب وليد جنبلاط ان فقدان المرجع العلامة محمد حسين فضل الله quot;خسارة فادحة للعالمين العربي والإسلامي اللذين يغرقان رويدا رويدا في الطالبانية الفكرية، فها هي واحدة من أبرز الرموز الصوفية تدمر في القارة الهندية، باكستان، التي منذ عرفت الإسلام قدمت مساهمات هائلة في الثقافة والعمارة والموسيقى والفنون الإسلامية المتنوعة، وكانت تحتضن عبر العقود التيارات الصوفية والفكرية والتنويرية المختلفةquot;.

العلامة محمد حسين فضل الله: مرجع شيعي زاوج بين مواكبة العلم واصول الدين

إجتماعياً، عرف فضل الله بانفتاحه على العصر في فتاواه، رغم تمسكه باصول الدين. وسياسياً، لعب فضل الله دوراً سياسياً بارزاً في الثمانينات بعد نشوء حزب الله كقوة عسكرية ثم سياسية توسع نفوذها تدريجا وسط الطائفة الشيعية، لتصبح الممثل الابرز للشيعة في لبنان.

وكان ينظر اليه على انه quot;المرشد الروحيquot; لحزب الله. وهو من اشد المؤمنين بquot;المقاومة والجهادquot; في مواجهة اسرائيل. وبقي كذلك حتى اللحظة الاخيرة من حياته. كما انه كان من انصار تأسيس الجمهورية الاسلامية على يد الامام الخميني.

لكن فضل الله ابن النجف ومؤمن بمرجعيتها، فيما حزب الله متمسك بمرجعية قم في الجمهورية الاسلامية الايرانية وتدخل quot;ولاية الفقيهquot; في صلب عقيدته. فحصل مع الوقت تباعد بين الجانبين نتيجة تباينات سياسية وعقائدية.

وقد شرع العلامة الشيعي quot;العمليات الاستشهادية في لبنان لدحر إسرائيل، وفي فلسطين. ودعا في المقابل quot;الى مقارعة الاحتلال الاميركي في العراق وفق ما تسمح به الظروف الموضوعيةquot;. وكان فضل الله مؤمنا باقامة الدولة الاسلامية في يوم من الايام، لكنه كان مقتنعا بان الامر غير ممكن في المرحلة الراهنة في لبنان. وهو يلتقي في ذلك مع نظرة حزب الله المعلنة.

ولد محمد حسين فضل الله في تشرين الثاني/نوفمبر 1935 في النجف في العراق الذي كان والده آية الله عبد الرؤوف فضل الله هاجر اليه لتلقي العلوم الدينية. وبدأ دراسته للعلوم الدينية في سن مبكرة جدا، وتتلمذ على ايدي كبار اساتذة الحوزة آنذاك وابرزهم المرجعان ابو القاسم الخوئي ومحسن الحكيم. ثم تحول الى استاذ للفقه والاصول في الحوزة العلمية الكبرى في النجف.

عاد الى لبنان العام 1966، فأسس حوزة quot;المعهد الشرعي الاسلاميquot; الذي تخرج منه كثير من العلماء البارزين. وعلى مدى اكثر من اربعين عاما، شكل فضل الله مرجعية بارزة في المذهب الشيعي وله مقلدون في لبنان وخارجه. وكان من ابرز الداعين الى quot;الوحدة الاسلاميةquot;.

وينقل عن المرجع الشيعي العراقي الراحل محمد باقر الصدر قوله لدى عودة فضل الله الى لبنان quot;كل من خرج من النجف خسر النجف الا السيد فضل الله، فعندما خرج من النجف خسره النجفquot;.

اهتم فضل الله كذلك بالشانين الاجتماعي والانساني، وهناك عدد من الجمعيات الخيرية التابعة له، منها مبرات الايتام المنتشرة في مناطق عدة والتي تحتضن حاليا اكثر من 3300 يتيم ويتيمة. وكان ايضا مرجعية قضائية شرعية يرجع اليه المتنازعون في مجالات مختلفة، وخصوصا في ما يتعلق بالحياة الزوجية.

تميز العلامة فضل الله بالجرأة في طرح نظرياته الفقهية وبانفتاح على التطور العلمي وعلى تفسير الاسلام. وقد افتى باعتماد علم الفلك والارصاد في اثبات بدء شهر رمضان وانتهائه، في وقت لا تزال المرجعيات الدينية الاسلامية في العالم تلتمس رؤية القمر بالعين المجردة لاثبات ذلك.

كما افتى بتحريم quot;جرائم الشرفquot; وتحريم ختان الاناث، معتبرا ان quot;ليس لاولياء الامر القيام بما ليس فيه مصلحة المرأةquot;، وان quot;ختان النساء ليس من السنن الاسلاميةquot;. وشرع فضل الله للمرأة الحق في استخدام القوة للدفاع عن نفسها اذا اراد زوجها او شقيقها التعرض لها بالضرب. من مؤلفاته quot;أسلوب الدعوة في القرآنquot;، وquot;الاسلام ومنطق القوةquot;، وquot;فقه الشريعةquot; الذي يضم آراءه الفقهية الكاملة ليسترشد بها مقلدوه. ولفضل الله احد عشر ولدا، سبعة ابناء واربع بنات.