تتكهن نخب جزائرية باستنساخ النموذج التركي في مستوييه السياسي والاقتصادي، وتحدث محللون وباحثون اجتماعيون لـquot;إيلافquot; عن إمكانية ظهور ما أسموه quot;علمانية متدينةquot;، بيد أنهم استبعدوا انبعاث quot;الخلافة الإسلاميةquot; في البلاد العربية خلال الأربعين سنة المقبلة، وأرجعوا ذلك إلى العديد من الاعتبارات.


تظاهرة سلمية سابقة في تونس تطالب بدولة علمانية

الجزائر: يتصور د. عمار يزلي أنّ التجربة التركية، إن دامت، ولم تخترقها الأيادي العسكرية، قد تلهم كثيرًا من العرب مستقبلاً في تبني نظام يربط بين الدين والدولة بطريقة سلسة غير قهرية، تحت مسمّى quot;العلمانية المتدينةquot;... هذه الأخيرة ستكفل تزاوج ثنائي طويل الأمد على طريقة تقاطع الأصالة والمعاصرة.

ويسجل يزلي أنّ الدولة الدينية، بالمفهوم الكهنوتي اللاهوتي، التي صارت تمثل في أذهاننا صورة quot;ستيريوتابquot; لما كانت عليه الدولة في العهد الإقطاعي في أوروبا وهيمنة الكنيسة بتحالفها مع الإقطاع على الساكنة (هذا قبل أن يبرز مفهوم quot;المواطنةquot;)، لم تعد هي الدولة المنشودة، على الأقل لدى شرائح واسعة من الشباب اليوم.

يتجلى هذا من خلال دراسة ميدانية قام بها د/يزلي على عينة من الشباب الجزائريين، موزعين بين الشمال والجنوب، أظهرت أنّ 15%فقط يرون في الدولة العلمانية السبيل إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي والسياسي، فيما رأى 20 % منهم أنّ التيار السلفي العلمي هو الذي بإمكانه أن يحقق هذه الغايات (السلفية العلمية في الجزائر تمثلها جمعية العلماء المسلمين أي التيار الإصلاحي).

في المقابل، يلاحظ محدثنا أنّ 64 % من العينة نفسها رأوا أنّ الإسلام العلماني هو السبيل الأمثل، وعليه فهذه التوجهات، تعكس تلك المقاربة الدينية الدنيوية التي تجعل من معادلة quot;الأصالة مع المعاصرةquot; هي الحل.

بالنسبة إلى عمار يزلي، فإنّ طرح مسألة الدولة المدنية أو الدينية كمطلب ومسعى شعبي في الثورات العربية والإسلامية، يبقى quot;سابقًا لأوانهquot; أو كما يقول المثل الفرنسي quot;كمن يضع العربة بعد الثور!quot;.

من جانبه، يقدّر د. بوخليفة حبيب أنّ العرب مرشحون للاقتداء في المستقبل القريب بمثال النظام الاجتماعي السياسي والاقتصادي التركي، جازمًا بكون الدول العربية التي شهدت ثورات، ستكون اجتماعيًا وسياسيًا في منأى عن أي نموذج ديني.

في المقابل، يلفت الباحث بن عبد الله مفلاح إلى أنّ الخلاف بين الإسلاميين وخصومهم حول طبيعة الدولة المنشودة بعد الثورات العربية، يعتمد في جانبٍ كبيرٍ منه على المصطلح؛ إذ إن مصطلح quot;الدولة الدينيةquot; أصبح لصيقًا بدولة quot;الإسلاميينquot;، أي مرادفًا للدولة الإسلامية، في حين يلتصق مصطلح الدولة المدنية بالعلمانيين.

يذهب د/بوخليفة إلى أنّه حتى وإن تصدّر الإسلاميون المشهد الثوري العربي بأنساق متفاوتة، إلاّ أنّ ما يسمّيه البعض quot;احتمال تأسيس دولة الخلافة الإسلاميةquot; في عدد من الأقطار العربية التي شهدت ثورات، يظل بعيون بوخليفة quot;سيناريو مستبعدًاquot;، ويدافع محدثنا عن حكمه بكون معطيات المرحلة الحالية، وكذا المقبلة، لا تصبّ في مصلحة الإسلاميين في مصر كما تونس وليبيا وغيرها.

يتصور بوخليفة أستاذ علم الاجتماع في بجامعة الجزائر أنّ الحركة الإسلامية ستكتفي بثمة مكانة ولو صغيرة في بناء أوطانها، لكن بعيدًا عن أي طابع ديني على الطريقة الإيرانية، في ظل رغبة المجتمعات المعنية الخروج من مستنقع الفوضى وتخبطاتها إلى مصاف ديمقراطي قار.

في سياق متصل، يرى د/مفلاح بن عبد الله أنّ لا أحد من الإسلاميين العقلاء في العالم العربي، يريد تأسيس دولة دينية لسبب بسيط، وهو أنه لا يوجد في أدبيات الفكر الإسلامي ما يسمّى بالدولة الدينية، فهي مصطلح أوروبي صرف؛ لأنّ الإسلام عبر تاريخه الطويل، وتجربته في الحكم، لم يعرف طبقة الكهنوت، ولا زعماء روحيين يحتكرون حق الغفران والحرمان، ويستأثرون بمفاتيح الجنة، ويمثلون إرادة الرب، على حد تعبيره.

ويسجل د/مفلاح أنّ هذه الحقيقة يحملها الإسلاميون المعاصرون ويجتهدون في تسويقها في كل ناد وواد؛ ففي مصر على سبيل المثال، حيث حظوظ الإسلاميين في الوصول إلى الحكم أكثر من غيرهم في البلدان الأخرى، جدَّد عصام العريان أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين رفض الأخيرة للدولة الدينية، مؤكدًا على أنّ الإخوان لا يرتضون هذا النمط من الدولة، لأن الإسلام ضدها، مؤيدًا الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية.

كما يبرز مفلاح تصريحات محمد عبد المنعم الشحات القيادي في التيار السلفي في مصر، والذي ذهب فيها إلى أنّ السنوات العشر المقبلة تحتاج تأسيس دولة القانون قبل الحديث عن الدولة الإسلامية.

على المنوال عينه، صرّح محمد سليم العوا المفكر الإسلامي الكبير وأحد المرشحين للرئاسة في مصر بأنه لا يريد أن تقوم في مصر دولة على النمط الإيراني أو الفاتيكان، بل سيسعى إلى إقامة دولة مرجعيتها مصلحة الشعب التي تحققها الأديان؛ تتساوى فيها الحقوق والواجبات، ويكون الدين عاصمًا من الفساد، وكله يؤكد على أن التخوف من دولة الإسلاميين أمر لا مبرر له، وما هو إلا فزّاعة بددها التاريخ، وستبددها التجربة.

من زاوية أخرى، يختزل بوخليفة مخاطر الأفق التحرري العربي، في شبح العقلية الغربية المهيمنة التي تنذر ndash; بحسب رأيه - بإفشال هذا الانتقال، على خلفية أطماع الغرب في ابتلاع ثروات المنطقة، وسط ما تعانيه أوروبا ورغبة نظمها في الاستفادة مما تكتنزه الأراضي العربي من طاقات كامنة.

في المقابل، يرى د. عمار يزلي، أنّ العالم العربي والإسلامي سيشهد تحولات، لا يمكن وصفها بالجذرية، لكن ستكون تحولات حاسمة على الأقل لمدة لا تقل عن أربعين سنة، لأنه من يحسب، يجد أن الثورات بدأت في أنظمة هرمت لأكثر من ثلاثين عامًا.

ويشير المتخصص في علم الاجتماع الثقافي والناقد السوسيولوجي إلى أنّ هذه الأنظمة هي كلها نتاج تحولات سابقة ناتجة، إما عن استقلال، أو في شكل انقلابات عسكرية أتت بأنظمة بشّرت بالرفاهية والعدالة الاجتماعية، لكن سرعان ما انقلبت على عهدها، وحولت الثروة إلى صندوق استثمار لتكديس quot;الثروةquot;، وتحولت معها إلى حاكمية عائلية وراثية: جمهوريات بذهنية إقطاعيات، حكمت شعوبها بعقلية المزرعة المترامية الأطراف.

ويقرأ د/يزلي الدولة نظامًا ومؤسسات، عنوان انتماء ووحدة عناصر، هذه الرقعة الجغرافية المحددة والمسيجة، يرى فيها المواطن ما يحقق له شرطين متزامنين مترابطين: العدالة الاجتماعية والكرامة النفسية، فدولة المواطن هي تلك الدولة التي تشعره بالأمان في رقعته الصغيرة، كما يشعر بالأمان في قريته الصغيرة، ثم في محيط بيته العائلي! فهو لا يهتم بالتفاصيل.

بهذا المعنى، يرى المواطن أن الدين يحقق له هذين المطلبين، لكن بشرط أن يكون الحاكم ونظام الدولة متدينًا، أي مطبقًا لهذين الشرطين، لا يهمّه أن يكون ناسكًا أو متعبدًا أو ملتحيًا أو علمانيًا.. إذا ما احترم الدين وتعاليمه الاجتماعية! غير أنه في الوقت نفسه، لا يريد أن يحكمه رجل الدين quot;المتشددquot;، الذي يمنع عنه أن يعيش وأن يحيا وأن يتمتع بدنياه.