بعد توصل الجمهوريين والديمقراطيين إلى اتفاق على سقف الدين العام ليل الأحد أصبحت لدى الولايات المتحدة فرصة طيبة للخروج من الأزمة دون ضرر بتصنيفها الائتماني. ولكن الحكومة الاميركية نفسها قد لا تكون محظوظة بالقدر نفسه في إنقاذ سمعتها.
نيويورك: قبل وصول مفاوضات الاتفاق على سقف الدين العام الأميركي إلى حافة الهاوية ثم الابتعاد عنها ليل الأحد فإن المرارة والانقسام ومظاهر الخلل التي تكشفت للعالم طوال أسابيع كانت الولايات المتحدة تنحدر خلالها نحو إعلان عجزها عن تنفيذ التزاماتها المالية، تسببت بنشوء قناعة بأن واشنطن تقترب من مستوى الاستعصاء السياسي الذي ألمّ باليابان من قبلها.
ويقول محللون إن الهستيريا السياسية قوّضت هالة أميركا المتلاشية أصلا بين زعماء العالم والأسواق العالمية بوصفها ملاذ العالم اقتصاديا والبلد الوحيد الذي لديه القدرة على إخراج الاقتصاد العالمي من الأزمة المالية والركود.
وعملت أزمة الدين على قضم هيبة الرئيس اوباما في العالم الذي احتفى به حين تولى مهام الرئاسة مراهنا على توجهه لإنهاء حقبة الأحادية الاميركية. أما الآن فإن موضوع البحث في العواصم الأخرى هو ما إذا كان quot;عصر اوباماquot; سيخلي الساحة ليحل محله quot;عصر التقشفquot;، الذي من المحتم ان يحدّ من نفوذ الولايات المتحدة عالميا، كما تتوقع صحيفة نيويورك تايمز.
وتلاحظ الصحيفة ان اوباما نفسه اعترف بذلك ضمنا في الاسابيع الأخيرة حين أرفق قراره سحب القوات الاميركية من افغانستان ابتداء من ايلول/سبتمبر، بإعلانه quot;ان الوقت قد حان للتركيز على بناء الأمة هنا في الداخلquot;.
وكان قراره الامتناع عن رصد أي موارد جديدة يُعتد بها لدعم الربيع العربي واصراره على تحميل الحلفاء الأطلسيين عبء العمليات في ليبيا، تذكيرا متعمدا بأن الزمن تغير وأن اميركا لم تعد قادرة على تحمل خطط مارشال جديدة أو حروب جديدة، بحسب نيويورك تايمز.
ولكن ازمة سقف الدين العام أضفت بعدا جديدا. وتركت دائني اميركا وحلفاءها على السواء يتساءلون عما تغير في السياسة الاميركية بحيث إن قطاعا واسعا من نخبتها السياسية بات على حين غرة مستعدا للمقامرة بسمعة الولايات المتحدة كأفضل مكان للاستثمار في العالم.
وأُثيرت تساؤلات عما إذا كانت الولايات المتحدة سائرة نحو مواجهات مماثلة تدفعها الى الحافة بشأن قضايا متعددة بين حركة محافظة تزداد جرأة ورئيس تتعرض سلطته الى التحدي. ورغم كل حديث اليمين عن quot;الخصوصية الاميركيةquot;، لاسيما بين أعضاء حزب الشاي فان كثيرين تساورهم الشكوك في ما إذا كانت هيمنة اميركا العسكرية والاقتصادية شيئا ما زال البلد مستعدا لتحمل ثمنه وادامته.
ويبدو ان المديرة الجديدة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد عبرت عن هذه الشكوك حين قالت في حديث لشبكة سي ان ان انه quot;كان هناك على الدوام انحياز ايجابي لصالح الولايات المتحدة، لصالح سندات الخزانة الاميركيةquot;. واضافت بلباقة ان احداث الأسابيع الأخيرة quot;ربما اخذت تنال من هذا الانحياز الايجابي ذاتهquot;.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن البروفيسور جيفري غارتن من كلية ييل لادارة الأعمال ومؤلف العديد من الكتب عن قوة اميركا في عصر العولمة، قوله ان التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة لن ينتهي مع انتهاء هذه الأزمة.
واضاف انه حتى إذا لاقى اتفاق الجمهوريين والديمقراطيين قبولا من وكالات التصنيف quot;تبقى هناك مشكلة ضخمةquot;. واوضح البروفيسور غارتن ان المشكلة تتمثل في quot;اننا بحاجة الى استراتيجية مالية واستراتيجية نمو على السواء. وما نسمعه في انحاء العالم ان لا احد مقتنع بأن لدينا هذه الاستراتيجية، بان لدينا طريقا لجعل الدين مستداما وللتعامل مع كل شيء، من بنيتنا التحتية الى نظامنا التعليمي. ويبدو واضحا للجميع اننا لم نفعل سوى الدوران لتفادي الكارثةquot;.
ولكن التحذيرات التي تُطلق بشأن انحسار قوة اميركا ليست جديدة بل تخللت السياسة الاميركية منذ فيتنام باستثناء فترة وجيزة في منتصف التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حين برزت اميركا بوصفها القوة العظمى بلا منازع.
ويرى مراقبون ان مثل هذه المخاوف قد تكون سابقة الأوان اليوم ايضا مشيرين الى انشغال اوروبا بأزماتها الاقتصادية، من أزمة الديون اليونانية المستمرة الى خوف اوروبا من التحاق ايطاليا باليونان، وانهماك اليابان في إزالة آثار الزلزال والتسونامي. فلم يجد المستثمرون إزاء ذلك اماكن أخرى يتوجهون اليها. ويساعد هذا في تفسير عدم حدوث ضغط حقيقي على الدولار، أو على المديونية الاميركية عموما. إذ ليس هناك مكان آخر يلوذ به المستثمرون، على ما يبدو.
وفي هذا الشأن يقول البروفيسور ولتر راسل ميد من كلية بارد الاميركية الذي له مؤلفات عديدة عن انحسار قوة اميركا quot;ان من حسن حظنا اننا في سباق مع اوروبا واليابان على لقب القوة العظمى الأكثر لا مسؤولية من الناحية المالية. وحاليا يتمتع الاوروبيون واليابانيون بافضليات كبيرة في هذا السباقquot;، بمعنى ان انضباط اوروبا واليابان ماليا اسوأ حتى من انضباط اميركا.
تبقى الصين التي خرجت من الأزمة المالية في 2008 و2009 متعافية محافظة على معدلات نموها المتسارع بوصفها البديل الوحيد الذي له مصداقية على الساحة الدولية.
وعمل القادة الصينيون كل ما بوسعهم لاستغلال ازمة الدين العام في واشنطن واستخدموا وكالة الانباء الصينية الرسمية لانتقاد الولايات المتحدة على انتهاج سلوك quot;لا مسؤولquot; يهدد بإجهاض الانتعاش الاقتصادي الهش لا في الولايات المتحدة وحدها بل في العالم اجمع.
وتلاحظ صحيفة نيويورك تايمز ان توبيخ الصين للولايات المتحدة يردد انتقادات اميركا نفسها للمكسيك وآسيا في التسعينات ولاوروبا في عهد أقرب. ويرى محللون ان الصين تريد بذلك ترويج نموذجها الاقتصادي بوصفه نموذجا متفوقا. ولكن الكثير من المستثمرين في العالم يخشون ان الصينيين أنفسهم ليسوا محصنين من الضغوط التي شلّت ارادة البرلمان اليوناني والكونغرس الاميركي عن معالجة المشاكل الأساسية في اقتصاد البلدين.
ويكمن جانب من المشكلة في السجال الدائر حول العلاقة بين دين اميركا العام وقوتها في ان هناك معسكرين على الأقل وان لادارة اوباما (والعديد من الجمهوريين) قدما في معسكر وقدما في المعسكر الآخر، بحسب نيويورك تايمز.
ويردد احد المعسكرين ما دأب رئيس هيئة الاركان المشتركة المنتهية ولايته الادميرال مايك مولن على قوله في احاديثه الصحافية مؤكدا باستمرار quot;ان أكبر خطر يهدد امن القومي هو مديونيتناquot;. ويحذر مولن من ان تخفيض الميزانية العسكرية يمكن ان يضعف القوات المسلحة ولا يبقي شيئا لتطوير تكنولوجيات جديدة مثل الطائرات المتقدمة دون طيار والأسلحة الالكترونية المطلوبة في الحروب الحديثة.
ويتفق مع مولن صقور تقليديون في الحزب الجمهوري مثل السناتور جون ماكين في حين ان كثيرين في حزب الشاي الذي لديه ميول شعوبية ونزعة انعزالية قوية يختلفون معه قائلين، انه مثلما تحتاج اميركا الى حكومة اصغر حجما في الداخل فانها تحتاج الى وجود عسكري أقل في الخارج.
ولكن هناك وجهة نظر أخرى تتعلق بقوة اميركا الناعمة. فان اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون جادلا منذ تولي الادارة الديمقراطية مقاليد الحكم بأن احد السبل لتفادي خوض حروب باهظة الكلفة كتلك التي شهدها العقد الماضي هو الاستثمار في اعادة بناء دول فاشلة.
ولكن بعد عشر سنوات على هجمات 11 ايلول/سبتمبر أخذت هذه الفكرة القائلة إن على اميركا ان تستثمر في الخارج لحماية أمنها في الداخل، تفقد رصيدها الشعبي بسرعة. وأوضح اوباما بأنه لم يعد متحمسا لمشاريع هدفها quot;بناء الأمةquot; في افغانستان وغيرها تستغرق سنوات ولا تكون مستدامة. وقال لمساعديه انها قد تكون مشاريع حسنة النية لكنها باهظة الكلفة.
وعلى الغرار نفسه فان كثيرين في البيت الأبيض والكونغرس يشكُّون في ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على القيام بدورها التقليدي بوصفها المنقذ في الأزمات المالية العالمية، سواء من خلال ما تُقرضه أو عن طريق ما تنفقه. وان الفكرة القائلة بإعداد حزمة مشاريع لتحفيز النمو الاقتصادي في العالم، كما طرحها اوباما قبل عامين في لندن بمساعدة الاوروبيين والصينيين، تبدو الآن فكرة خيالية في بيئة اليوم التي تتسم بالتقشف.
وكما قال البروفيسور غارتن لصحيفة نيويورك تايمز فان quot;الدرس الذي تقدمه أزمة سقف الدين هو انه إذا حدثت كارثة مالية أخرى فاننا سنعمل من دون شبكة أمانquot;. وعلى الجميع ان يسلموا بذلك.
التعليقات