عراقيو المهجر .. لقاء ثم وداع

بعد أن يتوافد مهاجرون عراقيون إلى بلادهم من بلاد الاغتراب، وفي مخيلتهم عراق جديد، يقررون الهجرة مجدداً بسبب الإجراءات الإدارية الروتينية، والظروف الاجتماعية والأمنية، وانعدام ضوابط تنظيم شؤونهم، ما ينهكهم، ويصدّهم عن الاستقرار في العراق.


بغداد: يتدفق مهاجرون عراقيون الى العراق بعد التغرّب سنوات في بلدان المهجر، وفي الوقت عينه يقرر العائدون منهم الهجرة مجددًا، بسبب الإجراءات الإدارية الروتينية، والظروف الاجتماعية والأمنية، وانعدام ضوابط تنظيم شؤونهم، مما خيّب أملهم في الاستقرار في العراق.

ويتحدث ابو ميس الموظف في شركة الطيف للسفر عن ظاهرتين تحدثان في الوقت نفسه: الهجرة والهجرة المعاكسة. وبحسب المعلومات التي استقاها من المسافرين، فإن هناك اشخصًا عائدين الى العراق وفي مخيلتهم عراق جديد يختلف عن عراق الماضي الذي تركوه قبل سنوات.

الاغتراب داخل الوطن

يقول ابو ميس: عايشت ظروف عائلة قررت العودة مجددا الى المهجر بسبب الإجراءات الروتينية التي تعرقل عودتهم الحقيقية الى العراق، فلم تفلح الأوراق الرسمية التي بحوزتهم، والجري وراء المعاملات من إكمال ما يتعلق بعودة أمين حسن الى وظيفته، وحتى الأطفال في المدارس، شعروا بالاغتراب داخل وطنهم أكثر من شعورهم به وهم في دول المهجر.

كما ان الزوجة فشلت في الحصول على وظيفتها السابقة كمعلمة مارست عملها طيلة عقد من الزمن في الثمانينيات. هذه الأسباب مجتمعة أسهمت في قرار العودة وبصورة نهائيًا إلى السويد.

لكن ابا ميس يرى ان عدد العائدين الى العراق بشكل نهائي او بشكل مؤقت اخذ في الازدياد، مع تحسن الوضع الاقتصادي في العراق.

ويقول محمد موسى، الذي يزور العراق بعد غربة سنوات في الدانمرك، إن نقص الخدمات يمثل العائق الأكبر أمام عودة المهجرين، يضاف الى ذلك الإجراءات الروتينية في ما يتعلق بالأوراق الرسمية التي تنهك المغترب وتصده عن العودة نهائيًا الى العراق.

الجدير بالذكر أن العراق وقع منذ عام 2008 تفاهمات مع عدد من دول المهجر، من ضمنها السويد، لتنظيم العودة الطوعية للاجئين العراقيين. لكن هذه التفاهمات مازالت تصطدم إلى الآن بالأوضاع الأمنية والخدمية والإدارية التي لا تفي بمتطلبات العودة.

العودة الطوعية

يناقش العراق بين فترة وأخرى مسالة عودة لاجئيه مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، آخرها كان لقاء لجنة المرحلين والمهجرين والمغتربين في البرلمان العراقي بوفد المفوضية في نهاية شهر تموز/يوليو، حيث نوقشت العودة بشرط أن لا تكون عودة قسرية، وان تكون إنسانية وعلى مراحل مدروسة من قبل الدول الأوروبية.

لكن كريم عارف الموظف في شؤون الهجرة والمهجرين يرى ان هذه اللقاءات عديمة الجدوى ما لم يتم تهيئة بنية تحتية حقيقية للعودة.

ويضيف: انا على تماس بحكم عملي بأشخاص عادوا الى العراق من دول أوروبا، لكنمعظمهم ينتابه شعور بأن البقاء في العراق امر صعب، اذا ما قارن وضعه المادي والاجتماعي والخدمات الصحية والاجتماعية في دول أوروبا على سبيل المثال لا الحصر.

ورغم أن سليم الخزاعي العائد من ألمانيا، يمتلك بيتًا في مدينته النجف (160 كم جنوب بغداد)، غير أنه يشكو نقص الخدمات التي يمكن ان تجعل من بيته قاعدة لترسيخ وجوده وأطفاله في العراق.

ويقول الخزاعي: ان بإمكاننا إيجاد التبريرات للبقاء، لكن يصعب إقناع الأطفال بذلك، وهميحثوننا على العودة الى ألمانيا في اكثر من مناسبة. وينظر الخزاعي بأمل الى المستقبل وفي ان تتحسن الظروف الامنية وتتوسع الخدمات الاجتماعية، وتجد المعاملات الرسمية طريقها الى المعالجة بطريقة حضارية وحديثة.

انعدام التخطيط

ويجبر انعدام التخطيط المصاحب لدعوات عودة الكفاءات الى تريث العقول المهاجرة في العودة كما يجبر العائدين الى التفكير بالعودة المعاكسة من جديد الى المنافي.

ويؤكد الدكتور صباح عيد أستاذ هندسة كيماوية في المانيا انه انتظر شهورًا تقديم الطلب الى وزارة التعليم العالي للالتحاق بمراكز البحوث في احدى الجامعات العراقية، لكنه اصطدم بالجواب اليائس في عدم وجود شواغر وظيفية الى الآن، وان عليه انتظار التخصيصات المالية والدرجات الوظيفية أيضًا.

لكن احمد الكلابي، الذي قضى نحو عقد في سوريا، حيث كان يعمل خبازًا، فيرى ان عودته الى العراق هي تحصيل حاصل لاضطراب الأوضاع في سوريا. وتفاجأ الكلابي بتحسن المستوى الاقتصادي في العراق، لكنه أشار الى الغلاء، لاسيما البيوت وأسعار العقارات.

يباشر الكلابي عمله في المخبز في العراق، حيث يبلغ دخله في مدينة كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) أضعاف ما كان عليه في منطقة السيدة زينب في سوريا.

البطالة والسكن

تقول ام سعيد التي قضت نحو سبع سنوات في الاردن ان تحسن الوضع الأمني والاقتصادي هو السبب الرئيس لرجوعنا الى بلادنا، لكنها تعاني عراقيل إدارية وانعدام الضوابط الذي يبطأ الحصول على حقوقها كمهجرة.

ورغم ان وزارة الهجرة والمهجرين تقول إنها تقدم كلالتسهيلات للعائدين، إلامعظم اللاجئين يقولون إنهم لم يلمسوا سرعة في انجاز معاملاتهم التي تتيح لهم الاستقرار وتوفير لقمة العيش.

ويعاني الكثير من العائدين البطالة. أما الموظفون منهم فيعانون بطأ إجراءات إعادتهم الى الخدمة والتي تستغرق سنوات.

أمير حسن، الذي عاد من هولندا بعدما رفضت إقامته هناك، لم يكن متهيئًا لهذه العودة التي تمت رغمًا عنه وبصورة مفاجئة. ومشكلة أمير انه ما زال معتمدًا على أهله في تكفل معيشته بصورة مؤقتة، بعدما فشل في الحصول على عمل ثابت إلى الآن.

وعلى الرغم من ان محاولات احمد في البقاء في هولندا، لم تفلح، الا انه يفكر في العودة مجددا الى أوروبا. وعن أسباب ذلك يقول احمد انه تفاجأ بالمستوى الاقتصادي في العراق ومعدلات الدخل العالية، إلى درجة إنه لا يستطيع التأقلم معها، فهو بلا وظيفة، ويصعب عليه البدء بمشروع تجاري بسبب فقدان راس المال.

يعترف احمد بصراحة ان فكرة عودته إلى أوروبا هي محاولة للهروب من الواقع الذي وجده في العراق.

الرغبة في العودة والمعوقات

يذكر ان الكثير من العراقيين الذين رفض لجوئهم يبذلون الجهد للبقاء في الدول الأوروبية بسبب عدم ضعف إمكاناتهم المادية في العراق، ويقول احمد ان معظمهم سيرغب في العودة الآنية إذا ما توافر الدعم الحكومي لهم في الحصول على عمل أو الحصول على راتب رعاية اجتماعية بحدوده الدنيا كما هو الحال في الدول الأوروبية.

ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، هرب ما يُقدر بأربعة ملايين عراقي من ديارهم بسبب العنف، نصفهم إلى خارج البلاد، في الدول المجاورة وأوروبا ودول أخرى.

ويشير كريم شنتاف الموظف في وزارة الهجرة والمهجرين الى ان العودة تحدث بصورة فردية، وليس بجهود حكومية، إضافة الى انغالبية العائدين يرونفرقًا شاسعًا بين وعود المسئولين والوقائع على الأرض، التي تجسد حالة اللامبالاة تجاه العائدين، وفي الوقت نفسه فلنمعظم الدول باتت تعتقد انه يمكن للعراقيين العودة إلى ديارهم بأمان واحترام بناء على ما يسمعونه من المسؤولين العراقيين لدى زيارتهم تلك الدول.

أسباب الهجرة المعاكسة

بالنسبة إلى العائدين من دول متقدمة مثل فرنسا والسويد والنرويج، فإنه حتى انقطاع الكهرباء يمثل بالنسبة إليهم سببًا في الهجرة ثانية من العراق، على الرغم من ان البعض يراه سببا quot;تافهاquot; في الهجرة.

ويصف سمير الملا ذلك بالقول: طيلة سبع سنوات في السويد لم نعان نقص الخدمات، وكنا نعيش حياة ترف هناك، ومن حقنا ان نقارن بين الوضعين للوصول الى قرار نهائي بشان البقاء أو العودة مجددا إلى المنفى، لاسيما انني وزوجتي وأطفالي نحمل الجنسية السويدية.

ينتقد احمد عادل دوائر المهجرين فيغالبية المدن، حيث يمتعضأكثر العائدين من تأخر انجاز معاملاتهم في الحصول على المساعدات والامتيازات التي توفرها لهم الحكومة.

أما إسماعيل طاهر العائد من فنلندا فيقول انه هرب من ثلوج فنلندا وظلامها الى صيف العراق اللاهب، متوجهًا الى وزارة الهجرة والمهجرين، بعدما أنهكه استكمال الأوراق الرسمية ليحصل على الوعود فقط بعد ثمانية اشهر من عودته الى العراق، كما لم تسفر محاولته في العودة الى وظيفته في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى الآن عن نتيجة تذكر.

يتألم طاهر للوعود المعسولة للمسؤولين من على شاشات التلفزيون. ويتابع: التقيت عددا من الكفاءات والأساتذة الجامعيين الذين عادوا الى العراق وكلهم يشكون المعضلة نفسها، اللامبالاة والروتين، والفترة الزمنية الطويلة التي تتطلبها المعاملات الرسمية.

ويتابع quot;حتى مسألة تنظيم عودة الطلبة الى مقاعد الدراسة فإنها تستغرق وقتًا ينهك الأسرة والتلميذ معًا، ويفوّت عليه زمنًا دراسيًا ليس بالهينquot;.

ويدعو كريم محمد، الذي كان لاجئًا عراقيًا في معسكر رفحاء الصحراوي لمدة ثلاث سنوات ثم انتقل إلى العيش فيه كندا ورجع الآن الى العراق من دون مسكن يؤويه وعائلته، يدعو إلى الدعم المادي للعائدين بغية مساعدتهم في تأسيس بنية تحتية للعودة مثل توفير الدور مخفضةالكلفة في المحافظات كافة لمن لا يمتلك مسكنًا، لأن ذلك كفيل بعودة اللاجئين في أوروبا ودول الجوار ومدن اخرى.