عندما يرفض الصحافيون أو الأحزاب في تونس مشروع قانون مجلة الصحافة والطباعة والنشر، فذلك يعتبر أمرًا عاديًا ولا يثير أي استغراب، ولكن أن يأتي هذا الرفض المشروع من طرف الأئمة والوعاظ فذلك يثير حقًا أكثر من سؤال، وتتبادر إلى الذهن نوعية العلاقة التي تربط أئمة المساجد بالصحافة.


صحف تونسية معروضة للبيع

تونس: السؤال المطروح بين إعلاميي تونس منذ أيام هو: ما الذي أثار الأئمة والوعاظ حتى أصدروا بيانًا يشرحون فيه مآخذهم على مشروع قانون الصحافة.

فمشروع قانون مجلة الصحافة والطباعة والنشر التونسي، أثار ردود فعل رافضة لبعض فصوله من طرف الأئمة والوعاظ، حيث أصدر عدد من الجمعيات الدينية (الجمعية التونسية لأئمة المساجد،والجمعية التونسية للعلوم الشرعية وجمعية المصطفى للعلوم الشرعية وجمعية نون والقلم وجمعية الزيتونة للعلوم الشرعية وجمعية المنبر الإسلامي وجمعية الخطابة والعلوم الشرعية)، بيانًا استنكرت فيه هذا المشروع quot;المتضمن فصولاً تتعلق بالمساجد وبالخطاب الديني، تتسم بالصبغة الزجرية الصريحة وتستهدف علماء الإسلام والأئمة والخطباء والوعاظ والمدرسين والباحثين في العلوم الإسلامية وتجرمهم وتحكم على نواياهم (الفصل 54) وتسلط عليهم رقابة شديدة لم يسبق لها مثيل لا في العهد البائد ولا في عهد الاحتلال ولا في سائر دول العالم الإسلامي والغربي، وتحجر عليهم التعبير عما يتعلق بالشأن العام للبلاد (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والتربوي)؛ من خلال ذكر بيوت العبادة والخطب والتطرف الديني والكتابات واعتماد فحوى العبارات الواردة في الخطبquot;.

وقال البيان quot; إنّ هذا الأمر يعتبر حصارًا لهم في أداء مهمتهم النبيلة ووصاية عليهم واستمرارًا لسياسة الإقصاء التي مارسها العهد البائد وإرهابًا فكريًا مسلطا عليهمquot;.

واستغرب بيان الجمعيات الدينيّة quot;هذا التحامل على الأئمة والخطباء دون الصحافيينquot;، وجاء فيه: quot;في الوقت الذي يوفر فيه هذا المشروع للصحافي كل ضمانات الحماية كما جاء في الفصول 11، و12، و13، و14، التي تنص على عدم جواز أن يكون الرأي الذي يصدر من الصحافي أو المعلومات التي ينشرها سببًا للمساس بكرامته وحرمته الجسدية والمعنوية، وعلى عدم جواز تعريضه لأي ضغط من جانب أي سلطة أو مساءلته عن رأي يبديه، وتعاقب كل من يهينه أو يتعدى عليه بالقول أو الإشارة أو التهديد حال مباشرته لعملهquot;.

وأكد بيان الجمعيات الذي اطلعت عليه quot;إيلافquot; ما يخفيه المشروع للخطيب الديني بالقول: quot;أما الخطيب الديني فليس له من خلال هذا المشروع كرامة ولا حرمة جسدية ومعنوية، بل هو معرض حسب هذا المشروع للعقوبات المالية والبدنية، وهو ما يمثل تحاملاً وعداء سافرًا للخطاب الديني ومؤسساته وعلمائهquot;.

هذا المشروع المرفوض من الجمعيات الدينية أثار الأئمة الخطباء والوعاظ التونسيين، ومنهم عبدالجليل عمارة (واعظ وإمام) الذي قال لـquot;إيلافquot; مستنكرا: quot;الدين ليس عبادات فقط، بل هو معاملات وعبادات وعقيدةquot;. وأضاف: quot;عقيدتنا الإسلامية لا نرضى لها مساسًا. أما العبادات التي يريدها من كان وراء هذا المنشور هي الاقتصار على الصلاة والزكاة والصوم والحج، ويبقى الجانب العملي في الدين والمقصود به المعاملات التي تضم المعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقيةquot;.

وأوضح عبدالجليل قائلا: quot;نحن ضد استعمال المنابر في المساجد للدعاية الحزبية، فلسنا أبواقا لأي حزب كان، من اليمين إلى اليسار، ولكن أن نفرغ الإسلام من محتواه فهذا ضد رسالتنا النبيلة، كأني بهم يريدون تحويل المسجد إلى كنيسةquot;.

في هذا الإطار نظم عدد من منتسبي الإتحاد العام التونسي للشغل ومكتب quot;شباب حركة النهضةquot; وقفة احتجاجية يوم الثلاثاء 23 أغسطس أمام مقر الإتحاد في ساحة محمد علي احتجاجًا على مرسوم قانون الصحافة الجديد وبالتحديد البند المتعلق بالتحجير على أئمة المساجد التطرق في خطبهم إلى موضوعات اجتماعية أو سياسية، واقتصارهم على موضوعات فقهية بسيطة وسطحية كطريقة الوضوء وطريقة الصلاة والالتزام بالموضوعات المفروضة من وزارة الشؤون الدينية، وهو ما أعتبروه quot;مساسًا بحرية التعبير وتهديدًا صريحًا لمكتسبات ثوره الحرية والكرامةquot;.

الجمعيات التي أصدرت البيان أكدت على احترام الحرية المسؤولة للصحافيين، ولكنها quot;تعلن رفضها لهذا المشروع لاسيما الفصول 49، و50، و51، و52، و53، و54 لأن الجهة التي تقترح هذا المشروع (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي) ليس لها أي شرعية تخوّل لها هذا العملquot;.

وأضاف البيان quot;المساجد لها وضع شرعي خاص في الدين الإسلامي وفي التاريخ والحضارة، وهو ما يحتم اعتماد الأسس الشرعية الضابطة لأنشطتها، وأن علماء الإسلام والأئمة والخطباء والوعاظ والمدرسين والباحثين في العلوم الإسلامية في ما يقومون به من تعليم المواطنين شؤون دينهم في دور العبادة (المساجد وغيرها) أو الأماكن العمومية، من خلال خطبهم وكتاباتهم، كل ذلك لا يندرج تحت طائلة مشروع مجلة الصحافة والطباعة والنشرquot;.

الفصول 49، و50، و51، و52، و53، و54من مشروع قانون مجلة الصحافة والنشر المرتقبة، أثارت حفيظة جمعيات شرعية تونسية

رئيس الفرع الجهوي للإئمة، علي الناصر، رفض هذا المشروع في حديثه لـquot;إيلافquot;، وقال: quot;نحن كأئمة نرفض هذا المشروع، وخاصة الفصول التي تمسنا مباشرة وتقلص من حريتنا على المنابر، وبالتالي أداء رسالتنا، نحن نرفض باعتبار أن هذا المشروع يتدخل في أمور الدين، لأن الدين هو الذي ينظم حياتنا، ولا يقتصر على الحديث في quot;نواقض الوضوءquot; مثلما يريدونquot;.

واعتبر علي الناصر أنّ الدولة من حقها أن تمنع الأئمة من الحديث في السياسة والدعاية إلى الأحزاب، ولكن ليس من حق أحد أن يمنع الإمام من الحديث في أمور الدنيا.

وعن الزجّ بأئمة المساجد في شؤون الصحافة قال: quot;لقد زّجوا بنا في شؤون الصحافة، معتبرين أن المنابر الإعلامية يمكن أن تكون للدعاية لبعض الأحزاب، وهذا مفهوم لدينا، لأن اليسار هو الذي كان وراء ذلك، وأن الإسلاميين يستغلون المنابر للدعوة إلى أحزابهمquot;.

وأضاف متهمًا quot;هيئة ابن عاشورquot;: إن quot;الهيئة العليا لحماية الثورة هي من كان وراء هذا المشروع وهي معينة وغير منتخبة، وبالتالي ليس لها القوة التشريعية التي تشرع لها تمرير مثل هذه المشاريع التي لا تلزم إلا أصحابهاquot;.

البيان الذي أثار الكثير من الجدل، أكد على ضرورة quot;التصدي لهذا المشروع الرامي إلى محاصرة الخطاب الديني وتكميم أفواه علماء الدين وتحويل الإسلام إلى كهنوت وصبغه بطابع كنسيquot;، كما طالب quot;الجهات الرسمية بإلغاء الفصول المتعلقة بدور العبادة والسلك الديني من هذا المشروع لما يمكن أن تحدث من الاحتقان والكراهية، ما يؤدي إلى الفتنة ويهدد الوحدة الوطنية، ونشعر الجهات المعنية أننا سنتصدى لهذا المشروع بكل الوسائل المتاحةquot;.

جاء هذا التأكيد على لسان الإمام الخطيب (م، ح) الذي رفض نشر اسمه، وقال لـquot;إيلافquot;: إنّنا ضد الدعاية الحزبية، وفي المقابل كل أمور الدنيا يجب أن نتطرق إليها بما تمثله من إشكاليات بين أفراد المجتمع وكل ما فيه إخلال بالقيم الكبرى كالعدل والتسامح والتعاون يجب أن يتناوله الإمام الخطيب في الدرس وتقديم الموعظة، لذلك لا بد من التصدي لهذا المشروع الذي يفرغ الدين من محتواه، ويجعل من الإمام كاهنًا ومن المسجد كنيسةquot;.

ناجي الباغوري النقيب السابق للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين ونائب رئيس الهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام تحدث لـquot;إيلافquot; حول هذا الموضوع قائلاً: quot;لقد وصلت الهيئة رسميًا بعض الملاحظات حول هذا المشروعالذي لايزال في طور النقاش، وفي الواقع الأئمة والخطباء لم يرفضوا قانون الصحافة، ولكن بعض فصوله التي تتحدث عن تجريم تسييس المساجد وجعلها منابر للدعايةquot;.

وأوضح الباغوري أن الهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام من المنتظر أن تجتمع الخميس للنظر في هذا الموضوع وغيره، وتدارس بعض النقاط التي برزت كما وصلتنا بعض القراءات النقدية للمشروع السمعي البصري.

وأضاف: quot;في الواقع هذه المسائل محلّ الجدال والرفض ليست لها علاقة بالحرية ومسألة الحديث داخل المساجد عن أمور السياسة مرفوضةquot;.