يبدو أن الفضيحة الجنسية التي تواجه هيئة الإذاعة البريطانية quot;بي بي سيquot; ستتطور إلى أزمة سياسية بعد الصدام العلني الذي وقع بين رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وحكومته الائتلافية بقيادة حزب المحافظين من جهة وإدارة البي بي سي العليا من الجهة الأخرى.


مع الكشف عن تفاصيل جديدة كل يوم عن تصرفات جيمي سافيل الذي كان من ابرز نجوم البي بي سي، تزداد سهام الأسئلة المصوبة إلى عدد متزايد من مسؤولي المؤسسة وخاصة مارك تومسن المدير العام لها حتى الآونة الأخيرة ورئيس شركة نيويورك تايمز ورئيسها التنفيذي قريبا.

كان المدير العام الحالي للبي بي سي الوجه المعلن لهذه المؤسسة المحترمة متحملا حرارة التحقيقات البرلمانية الحارقة وغضب المشاهدين اللاسع في غمرة العاصفة التي تحيط بطريقة التعامل مع الاتهامات الموجهة الى مقدم البرامج الراحل جيمي سافيل بارتكاب اعتداءات جنسية.

ولم يكن مارك تومسن، مدير عام البي بي سي من 2004 حتى الشهر الماضي، مسؤولا عندما ارتكب سافيل اعتداءاته المفترضة على قاصرين. ولكنه كان مديرا عندما توفي سافيل عن 84 عاما في تشرين الأول/اكتوبر 2011 وحين بدأ برنامجان من برامج الشبكة التحقيق على محورين متناقضين في حياة هذه الشخصية الغريبة.

جلسة استماع

وتركزت الأسئلة التي طُرحت خلال جلسة الاستماع البرلمانية يوم الثلاثاء على السبب في إلغاء تحقيق كان يجريه برنامج quot;نيوز نايتquot; الاخباري التحليلي على البي بي سي في الاتهامات الموجهة الى سافيل بالاعتداء الجنسي على اطفال فيما كان يُبث برنامج آخر يغدق عليه المديح والثناء. وحضر جلسة الاستماع البرلمانية المدير العام الحالي جورج انتويسل الذي بدا متضايقا يتخذ موقفا دفاعيا.

وفي اعقاب جلسة الاستماع اصدر المنتج السابق في البي بي سي والعضو الحالي في مجلس العموم روجر غايل بيانا تساءل فيه لماذا لم يُطالب مدراء البي بي سي قبل انتويسل بإجابات quot;وخاصة الرجل الذي كان المسؤول الأول عندما اتُخذ القرار بالغاء التحقيق الذي كان يجريه برنامج quot;نيوز نايتquot;، مارك تومسنquot;.

واضاف غايل في بيانه ان تومسن كان يتقاضى راتبا مجزيا quot;لكي لا يعرف على ما يبدو ما يجري تحت سقف مؤسسته نفسهاquot;. والمعروف ان المدير العام في البي بي سي يكون الرئيس التنفيذي ورئيس التحرير في الوقت نفسه.

ونشر النائب روب ولسن ايضا الذي طالب هو الآخر بإجابات من تومسن، رسالة قال فيها بصراحة ان المدير السابق quot;اغتنم الفرصة لتصويب وتوضيحquot; كلامه السابق عن الواقعة.

ومنذ انفجار الفضيحة هذا الشهر قال تومسن انه لا يعرف شيئا عن تحقيق برنامج quot;نيوز نايتquot; حين كان جاريا ولم يكن له دور في الغائه ولم يسمع بأي من الشكوك التي حامت حول شخصية سافيل وتصرفاته. وابدى استعداده للاجابة عن اسئلة البرلمان ولجنة التحقيق المستقلة في الأحداث التي جرت بين جدران البي بي سي.

وتوقفت التحريات البرلمانية عمليا بانتظار نتيجة التحقيقات المستقلة. واعلن جون ويتنغديل رئيس لجنة الثقافة والاعلام والرياضة النيابية التي عقدت جلسات الاستماع انه لا يعرف إن كانت اللجنة ستطلب حضور تومسن لاستجوابه.

وقال ويتنغديل quot;يقال لنا حاليا انه لم يكن لديه علم بتحقيق برنامج نيوز نايت. وإذا نشأت اسباب للتحادث معه سنتحادث معهquot;. ولكنه اضاف ان الافادات التي قُدمت حتى الآن عن آلية صنع القرار بشأن البرامج تبين ان المدير العام للبي بي سي quot;لا يُقحم في هذه الأمورquot;.

تناقض الروايات

ويُلاحظ ان رواية تومسن عن دوره تغيرت على نحو ما خلال الأيام العشرة الماضية. ففي بيان اصدره تومسن في 13 تشرين الأول/اكتوبر نفى نفيا قاطعا أي علم له بتحقيق برنامج quot;نيوز نايتquot; ولكنه في رسالة بعث بها يوم الثلاثاء ردا على اسئلة النائب ولسن أجرى تعديلا على ما يبدو في روايته قائلا انه quot;لم يُبلغ رسميا بشأن التحقيق الذي كان يجريه برنامج نيوز نايت ولم يُقدم له ايجازًا عن الاتهامات التي كانت موضع التحقيق والى أي حد تتعلق هذه الاتهامات بعمل السيد سافيل في البي بي سيquot;.

وقال تومسن في تلك الرسالة ان صحافية تحدثت معه خلال حفل استقبال في اواخر العام الماضي مشيرة الى التحقيق الذي كان يجريه برنامج نيوز نايت quot;وقالت كلمات مؤداها quot;لا بد ان تكون قلقا بشأن تحقيق نيوز نايتquot;quot;. وكتب انه سأل مدراء في قسم الأخبار عن الأمر وقيل له ان تحقيقا كان يجري ولكن البرنامج التلفزيوني quot;قرر ألا يمضي به قدما لأسباب صحافيةquot;.

وقالت الصحافية كارولين هاولي التي تحدثت مع تومسن انها لا تتذكر كل كلمة قيلت اثناء الحديث quot;ولكني اتذكر سؤالي لماذا أُلغي التحقيقquot;. وقالت انها اثارت الموضوع بعد ان تحدثت في وقت سابق من ذلك اليوم مع صحافيين في برنامج نيوز نايت لهم علاقة بالتحقيق في تصرفات سافيل وانهم quot;كانوا منزعجين بسبب إلغاء التحقيقquot; ولا سيما انهم صوروا ضحية من ضحاياه روت لهم قصتها مع مقدم البرامج وافادات عن اعتداءات أخرى ارتُكبت على ما يُفترض في مبنى البي بي سي.

وأكدت هاولي انها لم تعرف كل ما كشف عنه الصحافيون في تحقيقهم ولكن شيئا واحدا ظل عالقا في ذهنها هو quot;ان جيمي سافيل كان يطلب خدمات جنسية على ما يُفترضquot;. ورغم انها لا تتذكر انها ذكرت ذلك في حديثها مع تومسن فانها قالت quot;خرجت بانطباع مفاده انه لم يكن لديه علم بالتحقيقquot;.

وقال تومسن في مقابلة الأربعاء انه لا يرى تناقضا بين البيان الذي اصدره في 13 تشرين الأول/اكتوبر بشأن ما يعرفه عن قضية جيمي سافيل عندما كان مديرا عاما والتعليقات التي قالها للنائب ولسن ولصحيفة نيويورك تايمز يوم الثلاثاء.

وميز تومسن بين العلم بوجود تحقيق ومعرفة مضامينه الفعلية. وقال ان احدا لم يحدد له ما وجه الدقة مسارات التحقيق التي اعتمدها برنامج نيوزنايت أو فحوى الاتهامات الموجهة. واضاف quot;لم تُقدم لي أي تفاصيل عما كان البرنامج يحقق فيهquot;.

وسأل النائب ولسن لماذا لم يتعمق تومسن في التحري عن القضية بعد عن علم بإلغاء التحقيق الوثائقي الذي كان يجريه برنامج نيوز نايت. فقال تومسن انه طيلة عمله مديرا عاما لم يُبلَّغ قط بتفاصيل التحقيقات الصحافية التي يجريها برنامج نيوز نايت وكان كثيرا ما لا يعلم بها إلا حين يشاهدها على التلفزيون. وأكد انه لا يتذكر برنامجا واحدا أُبلغ عنه أو قُدم له ايجاز بشأنه. ولم تكن هناك حالة واحدة أُحيل فيها برنامج من إعداد quot;نيوز نايتquot; الى المدير العام.

وكانت الشرطة فتحت تحقيقا في اتهامات موجهة الى سافيل بارتكاب اعتداءات جنسية ابتداء من 2007 ولكن التحقيق أُغلق في النهاية. وقال تومسن انه لم يسمع أي اتهامات ضد جيمي سافيل إلا قبل اسابيع قليلة حين ذاع نبأ التحقيق الوثائقي الذي بثته قناة آي تي في المنافسة للبي بي سي وانه لم يُطلَب منه قط أن يقدم أدلة أو يتحدث للشرطة أو غير الشرطة عن جيمي سافيل. واضاف quot;كما لم يكن عندي اي معلومات قد تكون ذات صلة بهذه التحقيقاتquot;.

وقال النائب ولسن في حديث صحافي إن من غير المعروف حتى الآن حجم ما كان يعرفه كبار المدراء الى جانب تومسن عن نتائج التحقيق الذي اجراه برنامج نيوز نايت. واضاف quot;نحن لا نعرف المعلومات التي تتدفق عبر حلقات السلسلةquot;.

وقال موظفون حاليون وسابقون في البي بي سي ان بيتر ريبون مدير برنامج نيوز نايت الذي استقال من عمله أبلغ ستيفن ميتشل نائب مدير قسم الأخبار ومديرته هيلين بودن التي ابلغت بدورها تومسن. وامتنعت بودن عن التعليق على ذلك ولم يرد ميتشل على رسالة تطلب منه التعليق. وقال ريبون ان إلغاء التحقيق الذي أجراه برنامجه في تصرفات سافيل كان قراره وحده.

وحين بدأ تحقيق نيوز نايت في تصرفات سافيل ثم أُلغي كان قسم البرامج برئاسة انتويسل وقتذاك، يعد برامج للإشادة بمناقب جيمي سافيل ومساهماته التلفزيونية. واحتفى احد هذه البرامج ببرنامج من تقديم سافيل يحقق فيه الأمنيات التي يحلم بها الأطفال.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الموظفين الحاليين والسابقين في البي بي سي ان تومسن علم بإلغاء التحقيق الذي كان يجريه برنامج نيوز نايت قبل بث البرامج التي تشيد بموضوع التحقيق جيمي سافيل والاتهامات الموجهة اليه ولكن ليس هناك ما يشير الى انه حاول ان يحل التناقض بين التحقيق والتكريم.

أزمة سياسية

في غضون ذلك أخذت تلوح نُذر تطور الفضيحة الى أزمة سياسية بالصدام العلني الذي وقع يوم الأربعاء بين رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وحكومته الائتلافية بقيادة حزب المحافظين من جهة وإدارة البي بي سي العليا من الجهة الأخرى.

واتخذ الصدام شكل تحذير علني غير مسبوق للمسؤول الذي يتربع على قمة هرم البي بي سي وجيشها من العاملين البالغ عددهم 23 الف شخص. إذ قالت الحكومة لرئيس مجلس امناء البي بي سي السر كريستوفر باتون ان صبرها بدأ ينفد في اعقاب التبريرات والتفسيرات المهزوزة لعدم التحرك منذ ستينات القرن الماضي لإنهاء نمط قال متهمو سافيل انه سلسلة اعتداءات جنسية ارتكبها ضد قاصرات في الغالب. وأصبح محققو الشرطة خلال الأسابيع الأخيرة على علم بما لا يقل عن 200 ضحية من ضحايا اعتداءات سافيل الجنسية.

وجاء تحذير الحكومة في رسالة بعثت بها وزيرة الثقافة ماريا ميلر الى باتون الذي هو نفسه وزير سابق في حكومات المحافظين وآخر حاكم بريطاني في هونغ كونغ قبل عودتها الى الصين عام 1997 والرجل الذي انتقاه كاميرون بنفسه ليكون رئيس مجلس امناء البي بي سي العام الماضي.

وقالت الوزيرة في رسالتها quot;ان مخاوف حقيقية جدا تُثار بشأن ثقة الجمهور بالبي بي سيquot; التي تموَّل بنحو 6 مليارات دولار سنويا يدفعها البريطانيون مقابل الحصول على ترخيص لمشاهدة التلفزيون. وشددت الوزيرة على الأهمية البالغة لطمأنة هذا الجمهور من دافعي الضرائب الى ان تحقيقات البي بي سي في فضيحة سافيل quot;تُجرى بدقةquot; تنفيذا لواجب هذه المؤسسة العريقة في الحفاظ على quot;مستويات رفيعة من الانفتاح والشفافيةquot;.