يقضي المسنّ كاظم حسن (75 سنة) جلّ وقته في مقهى قريب من داره في منطقة الكرادة في بغداد، بعدما ظل وحيدًا منذ أن ماتت زوجته وقُتل ابنه، وتفرّق الآخرون عنه. ومنذ الصباح إلى ساعة متأخرة من النهار لا يجد حسن من يتحدث معه إلا مصادفة حين يجلس إلى جانبه مسنّ آخر أو مستطرق يتجاذب معه أطراف الحديث.


المقاهي تنتشر في أوساط المسنين العراقيين في غياب البدائل الأخرى المتاحة

وسيم باسم من بغداد: في غالب الأحيان فإن مسنّي العراق يعانون من وقت الفراغ الكبير لديهم وتهميش المجتمع لهم حين يصنّفون كعجزة أو مرضى. ويبلغ الألم مبلغه لدى الكثيرين من المسنين حين لا يجدون من يهتم بهم لحظات المرض والأزمات، لاسيما أولئك الذين يفتقدون الأولاد، فيتخذ البعض منهم الشارع أو المقهى كمجتمع بديل، وما يترتب على ذلك من نتائج تتعارض مع القيم الأخلاقية والدينية السائدة.

دور هامشي
رغم أن بيوت العجزة في العراق تستقبل البعض منهم إلا أن دورها يبقى هامشيًا لمحدودية العدد وغياب البرامج الاستراتيجية والثابتة الكفيلة باستقطاب المسنين الذين غالبًا ما يفضلون العيش في البيت على دار المسنين.

ينتقد الباحث الاجتماعي أحمد الحسني غياب دور المسنّين في العراق، والذين يعدون طاقة بشرية ضائعة يمكن استغلالها إذا ما أحسن تسخيرها. وفي الوقت نفسه فإن الوسيلة الوحيدة للتسلية وقضاء وقت الفراغ هو المقهى. أما إذا غاب المقهى فالبيت. ويؤكد الحسني أن القيم الاجتماعية تحول دون إقبال المسنين على دور العجزة، فكثير من الناس يعتبرون أن إرسال آبائهم المسنّين إلى مراكز الرعاية الاجتماعية أمر معيب.

يبلغ عدد المسنين في العراق ممن هم في سنّ 60 عامًا وما فوق أكثر من مليون شخص، أي بنسبة 4% من السكان، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد بحلول عام 2050 إلى حوالي 5 ملايين مسن. تأسست أقدم دار للمسنين في ثلاثينات القرن الماضي، وتحتوي على نحو (120)، بحسب مديرة الدار إنعام البدري. وفي بعض الأحيان تجد من كبار السنّ من قدرت له الظروف أن يحيا في العراء بلا سكن أو مأوى.

أحد هؤلاء هو أبو أيمن في بابل (100 جنوب بابل) بثيابه المهترئة ولحيته الكثة. لا يتذكر أبو أيمن من حياته شيئًا سوى أنه بلا أولاد أو سكن، وفي السابق كان يستأجر بيتًا، لكنه حين أحيل إلى التقاعد، ومن ثم أصيب بالمرض، اضطر إلى ترك البيت، حيث لجأ إلى الشارع. وفي الليل والأيام الباردة ينام أبو أيمن بين الدكاكين في الزوايا المظلمة. وهذه الظاهرة تجد لها مكانًا في الكثير من مدن العراق، حيث يتحول بعض المسنين ممن لا أهل لهم إلى مشرّدين.

لكن الباحث الاجتماعي سعد كامل يرى أن بعض كبار السنّ يتحولون إلى مشردين، ومن ثم (مجانين) لعدم الاهتمام بهم صحيًا ونفسيًا وماديًا.ويتابع: في غالب الأحيان تنتشلهم الشرطة والناس في مرحلة متأخرة حين يكونون قد دنوا من حياة التشرد.

وبحسب كامل، فإن العراق يتوافر على 5 دور لإيواء المسنين في بغداد والموصل والبصرة وكربلاء والقادسية، وتقدم إليهم خدمات الإيواء والعلاج الصحي والنفسي، وتوفر لهم وجبات غذائية.

عالة على المجتمع
في الحي الصناعي في بابل، فإن أبا هاشم الطاعن في السنّ صار شخصية معروفة للجميع، فهو يسكن في العراء، ويتجول بين المعامل الصناعية بلحية كثة وصعوبة في المشي. يقول عنه محمد حسن صاحب كراج سيارات إن له ولدين لا يسألان عنه، لكنه لا يعرف بالضبط أين يسكنان . وبحسب حسن فإن أبا هاشم اعتاد على استنشاق (السيكوتين) والمواد الكيميائية كبديل من الخمر الذي لا يستطيع شراءه.

من جهتها، تصف الباحثة الاجتماعية رحيمة الأسدي نظرة المجتمع إلى المسنّ على أنه شخص عاجز لا يستطيع القيام بشيء، وفي المقابل فإنه يتحول يومًا بعد يوم إلى عالة على أهله وأبنائه، وغالبًا ما تحدث مشاكل داخل الأسرة بسبب ذلك. وتروي المدرسة هيفاء أحمد عن جارتها المسنّة أم حليم وكيف تركها أولادها جميعًا، وأنهم لا يزورونها إلا في المناسبات، حيث أصبحت بلا دخل، إلا بما يتصدق به الناس عليها. ومع تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق فإن الحاجة إلى إنعاش دور المسنين تصبح أمرًا ضروريًا.

رعاية المسنين
لكن محسن فاهم، الذي يعمل في دور للمسنين منذ عشرة أعوام، فيقول إن التعامل مع هذه الفئة العمرية يحتاج إلى تفهم مطالبها واحتياجاتها، وquot;لكن بعد تجربة العمل، أدركت أن كل إنسان سيصبح يومًا ما مسنًّا، وأن على الجميع تقديم الرعاية إليهم. ويدعو فاهم إلى استغلال متخرجي المعاهد والكليات الاجتماعية في برامج رعاية المسنين، حيث سيوفر ذلك فرص عمل لهم، كما يساهم في دمج المسنين في المجتمع.

وكان وزير الصحة العراقي مجيد حمد أمين قال إن quot;شيخوخة السكان وتقديم الخدمات الصحية إلى كبار السنّ يمثلان تحديًا كبيرًا للرعاية الصحية في العراقquot;. من ناحيته يرى الطبيب كاظم جاسم أن غالبية كبار السنّ في العراقتعاني من أمراض مزمنة، بينها التهاب المفاصل والسكري.

وبينما يحاول نائل حسن (مدرس) تقديم الرعاية إلى والده المصاب بالخرف، فإنه يضطر في بعض الأحيان إلى تركه وحيدًا في البيت خلال أيام الدوام الرسمي. ويقول إنه استأجر خادمة، تقوم برعايته، لكنها لم تصمد طويلاً، كما حاول نقله إلى دور رعاية العجزة، لكنه تراجع عن قراره حين زار الدار، ورأى أنها لا تناسب والده من ناحية الاهتمام والرعاية، ولا تتفق مع (مزاج) والده. ويعاني الكثير من مسنّي العراق مرض الخرف، ويصل في بعض المناطق إلى نسب مرتفعة.

لجوء المسنين إلى المقاهي
بسبب لجوء الكثير من المسنين إلى المقاهي لتمضية أوقات فراغهم، يقترح فاهم ابتكار ما يسمّيه بالمقهى النفسي. وهو مقهى يستقطب المسنين ويعمل فيه جلساء للمسنين، يتكلمون معهم ويحلون لهم مشاكلهم ويقدمون إليهم الخدمات.

وبحسب صبيح الجبوري من الصالحية في بغداد، فإن النسبة الأكثر من مرتادي المقاهي هي من المسنين والمتقاعدين الذين يقضون ساعات طويلة في المقهى يتجاذبون مع بعضهم أطراف الحديث.

ويعتقد قيصر كامل، موظف متقاعد (75 سنة) أن معظم المسنين والمتقاعدين ممن يحاورهم يشعرون بافتقادهم إلى الاهتمام المجتمعي بهم، ويدعو إلى تأسيس منتديات لكبار السنّ وجمعيات اجتماعية، تتيح لهم اللقاءات الدورية وممارسة أنشطة اجتماعية متعددة، وتقوي صلتهم ببعضهم، وتجعلهم أسرًا بديلة لبعضهم البعض.