مركز الوفاء لرعاية المسنين المكان الوحيد في مدينة غزة الذي يعتني بكبار السن الذين عصفت بهم ظروف الحياة الصعبة للغاية فجلبهم أقاربهم إلى المركز وهناك كانت لكل منهم حكاية مختلفة من البعد والحرمان وندرة زيارة الأبناء والأقارب. quot;إيلافquot; تجولت في أرجاء المركز، واستمعت إلى مختلف الحكايات ..


غزة: على مقربة من الحدود الفاصلة بين قطاع غزة وإسرائيل، وفي شقق سكنية متواضعة تتواجد فئة المسنين المهمشة والمحرومة من الحب والأمان والرعاية الصحية اللازمة، وفي ظروف اجتماعية صعبة جدًا، فقد هؤلاء أقاربهم فباتوا يشكون الألم، بلغة كبار السن الممزوجة بالأنين والوجع كانت ألسنتهم تلهج quot;لا أحد يأتي لزيارتنا من أقاربناquot;.

رحلة طويلة من المعاناة

المسنة مريم على سريرها في دار المسنيين

اقتربت مراسلة quot;إيلافquot; من سريرها الذي لا تسمع منه سوى نبضات تنفسها غير المنتظمة التي تنم على وجود عدة أمراض تعاني منها، فتحدثت quot;سمر quot; المربية التي تعتني بالمسنة مريم وتقول بأنها تجاوزت السبعين من عمرها، ولها حكاية معقدة قليلاً فقد طلقها زوجها، وأخذ أبناءها وغادر إلى خارج الوطن هذا الحرمان من أبنائها أدى إلى مضاعفات نفسية كبيرة، فقام بعض الأقارب البعيدين بإحضارها إلى مركز الوفاء، وهي تعاني من عدة أمراض، ولا تغادر سريرها كما الباقيات وعندما حضرت إحدى بناتها قبل سنة لزيارتها لم تتعرف عليها، بل وكانت ترفض أن ترى أبناءها .

الجيران من أحضروها الى المستشفى

على الرغم من ضعف حاسة السمع لديها إلا أن بعض الكلمات التي نطقت بها quot;المسنةquot; فاطمةquot;، التي تجاوزت العقد الثامن من عمرها، كانت كافية لتروي حكاية صاغتها بلغتها بالدموع والبكاء، على سنين طويلة لم ترَ فيها أحدًا من أقاربها. فهي كما تقول إن quot;لديها ثلاثة أبناء وماتوا جميعًا، وبعدما توفي زوجها، فكانت تقوم بالبيع على باب المدارس، ثم تدهورت حالتها النفسية مما اضطر جيرانها إلى إحضارها إلى مركز الوفاء لرعاية المسنينquot;.

ومنذ 25 عاماً، وهي ترقد في المكان نفسه، تنتظر أحدًا أن يـأتي لزيارتها ولو مرة واحدة قبل أن تغادر الحياة.

7 سنوات من الألم

المسنة مباركة..الدهر ترك آثاره على تفاصيل وجهها
quot;مباركةquot;104 أعوامlsquo; قبل سبع سنوات أحضرتها ابنتها إلى مركز الوفاء لكبر عمرها وتجاوزها سن التسعين، تنام على سريرها، لا تتحرك، إنما تقوم بعض الممرضات بتقليبها كل ساعتين، كما أنها لا تستطيع أن تأكل بالمطلق وتعتمد على الطعام المطحون، ولديها ابنة وحيدة كبيرة في السن وتجاوزت هي الأخرى سن السبعين، لذلك تتعذر عليها زيارتها.

وتقول العاملة التي تعتني بها واسمها quot;مباركةquot; إنها بين الفينة والأخرى تتذكر زوجها فتنادي في أرجاء المركز بصوتها الخافت الضعيف محمد.

فقدت بصرها ولم تفقد شوقها لرؤية أقاربها

تنقلت مراسلة quot;إيلافquot; في أرجاء المركز تبحث عن حكايات أخرى، وفي غرفة تضج بالزائرين كانت المسنة quot;رضا quot;85 عامًا، والتي تتواجد منذ 25 عامًا في مركز المسنين تقوم بالغناء للزائرين بصوتها الجميل.

أحضرها جيرانها الذين علموا أنها تعيش وحدها في ظروف سيئة، فهي عزباء وفاقدة لبصرها أيضًا. وتقول رضا: quot;إنه لم يزرها أحد منذ زمن طويل جدًا وأنه لا أحد يسأل عنها، وأن المركز يعتني بها ويقدم لها وجبة من الغذاءquot;.

وإنها تقوم بالحديث مع العاملين على رعايتها، بالإضافة الى أنها تتحدث دائمًا عن quot;أيام زمانquot; مع المسنات اللواتي يتواجدن معها في الغرفة نفسها. خاتمة حديثها بأنها تتمنى أن ترى أقاربها، وأن يأتوا لزيارتها.

quot;رحمةquot; من مديرة مدرسة إلى مركز رعاية المسنين

رحمةquot;90 عامًا تقول: quot;ولدت في سوريا لأب سوري وكبرت وتعلمت اللغة الفرنسية والانجليزية، ودرست في مدارس دمشق وعملت مديرة لإحدى المدارس إلى أن تقدم لخطبتي شاب فلسطيني فوافقت وعندما تزوجت حضرت إلى مدينة غزة معهquot;.

إحدى المسنات في المركز

وتضيف: quot;ومنذ زواجي لم أنجب الأطفال ودفعت زوجي لأن يتزوج بغيري وبالفعل تزوج وأنجب الأبناء، وعندما تقدم بي العمر وأصابني مرض الضغط أحضرني زوجي إلى مستشفى الوفاء للعلاج وبعدها أحضرني إلى مركز الرعاية للمسنين، ومنذ وفاة زوجي لم يزرني أحد أبدًا سوى بعض الأشخاص الذين يقدمون المساعدة لناquot;.

وعن سؤالها عن الرعاية التي تتلقاها أشارت إلى quot;أنها تتلقى رعاية صحية جيدة وتتناول وجبات تتناسب مع مرضها، لكن كل ذلك لا يمنع أنها تشتاق جدًا أن ترى أحدًا من أقاربها الذين تصفهم بالظالمينquot;.

من شقة المسنات إلى شقة المسنين حكايات متشابهة وتفاصيل مختلفة

quot;محمدquot; أحد المصابين في الانتفاضة الأولى أدت به الإصابة إلى ارتجاج في المخ وشلل رباعي. وبكلماته البسيطة ورغم ثقل لسانه روى بثلاث كلمات حكايته quot;أختي من كانت تزورني فقطquot;.

محمد يعاني من ارتجاج في المخ وشلل رباعي

الجدير بالذكر أن لمحمد أختاً تدعى تمام كانت قد أحضرت محمد إلى المركز وهي تتواجد حاليًا في المكان نفسه، وقد أحضرها الجيران إلى المركز بعد الحادث الذي أصابها، وأن المكان الذي كان يعيش فيه محمد وأخته لا يليق بالبشر بالمطلق.

ويعاني محمد من ضمور في المخ وشلل رباعي مما يجعله يحتاج إلى رعاية خاصة، يحاول المركز توفيرها بشكل أو بآخر وفق ما يتوافر لهم من إمكانيات.

رياض quot;74 عاماًquot; يُعرب عن سعادته لأنه يأتي يوميًا إلى مركز الوفاء لرعاية المسنين منذ 3 أشهر.

ويتابع أنه كان متزوجًا من 4 نساء ولم ينجب منهن، وهو يسكن الآن مع زوجته الرابعة، وبعدما تقاعد من عمله كمدير ورشة كان يحتاج للرعاية لاسيما أن يده اليسرى بحاجة إلى علاج طبيعي.

ويضيف: quot;أحضر في الساعة 8 ونصف صباحًا وأغادر المركز الساعة الثالثة لأن زوجتي تحتاج الى رعايتيquot;. ويتابع: quot;لا يوجد أحد من أقربائي يزورني في المنزل أو في المركز quot;.

وعن الرعاية التي يقدمها المركز له يشدد بلهجته الخاصةعلى الاهتمام الذي يحظى به في المركز، ويلخص قائلاً: quot;فأنا أتحدث إلى الأطباء والممرضين والعاملين، بل ويحترمني الجميعquot;.

ويعقب الدكتور ماهر عاشور المختص بالعناية بالجانب الصحي لكبار السن المتواجدين في مركز الوفاء بالقول: quot;إن هذه الفئة الموجودة لدينا في المركز مهمشة جدًا وعند الكشف الميداني الذي نقوم به قبل أن نحضر المسن إلى المركز نجد أن أهالي هؤلاء المسنين يضعونهم في أماكن لا تصلح لبني البشر.

مشيرًا الى أن التقدم في السن هو عملية طبيعية لكن تحدث بعض التغيّرات كالإصابة بأمراض السكر، القلب، ارتفاع ضغط الدم، فقدان الوعي، وعدم التحكم في البول، ونقص المناعة الناتج عن قلة تناول هذه الفئة للمواد الغذائية نتيجة الإهمال من قبل الأقارب.

ويضيف أن هنالك أمراضًا تصاحب المسنين عندما يدخلون إلى المركز وهي الأمراض النفسية فكلهم له حكاية خاصة ويحاول المركز أن يوفر لهم العوامل التي تخفف حالتهم عن طريق إقامة بعض الحفلات والرحلات.

منوهًا في حديثه إلى أن المريض الكبير بحاجة الى اهتمام خاص جدًا على كل الأوجه منها الرعاية الصحية وبعض الأدوية الخاصة بهم، والدعم النفسي الذي يحتاج الى معدات خاصة غير متوافرة بشكل كبير في المركز لمساعدتهم على تجاوز الظروف النفسية التي يشعرون بها الناتجة عن الإهمال من قبل الأقارب.

وعن شروط دخول المسن إلى مركز الوفاء لرعاية المسنين، يقول quot;أشرف حمادةquot;، المساعد الإداري في المركز، إنه يجب أن يكون المسن تجاوز الـ60 من عمره من كلا الجنسين وأن يكون المسن قد فقد أقاربه من الدرجة الأولى، سواء كانوا أبناءه أم بناته.

مشيرا حمادة الى أن الدعم الذي يتلقاه المركز هو قليل ويعتمد على المساعدات المادية البسيطة من المحسنين والميسورين الحال.

موضحًا بأن كبير السن بحاجة إلى ما يقارب الـ300 دولار شهريًا لتستوفي مستلزمات المسن من طعام ومأكل وأدوية طبية يحتاجها المريض المسن.

متمنيًا أن تتوافر الامكانيات المادية والمعنوية لتساعد بقية المسنين الذين يحتاجون الى الرعاية الخاصة.

غادرت مراسلة ايلاف المركز، وهي ترقب تلك العيون الحائرة المليئة بالدموع من قبل المسنين الذين يتلهفون إلى الحنان الذي فقدوه في غمرة صراعات الحياة وانشغال الأبناء والأقارب .