عادت مسألة التعويض للمساجين السياسيين وضحايا الإستبداد طوال ستة عقود لتثار من جديد وتخلق جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية والإجتماعية التونسية، بعدما ضمّنها وزير المالية المستقيل حسين الديماسي في بيانه كأحد أسباب استقالته.
تظاهرة تضامنية مع حقوق السجناء السياسيين في تونس |
محمد بن رجب من تونس: كانت حكومة الترويكا قد عرضت مقترحًا على المجلس الوزاري، يطالب بمنح تعويضات مادية ومعنوية للسجناء السياسيين في زمن بورقيبة وبن علي، ما أثار ردود أفعال متباينة.
ويرى عدد واسع من أحزاب المعارضة أنّ هذه التعويضات ما هي إلا مكافأة من حركة النهضة لمناضليها على سنوات الغبن والقهر، وذلك على حساب العجز الذي تعانيه ميزانية الدولة، بينما يرى شق آخر أنّ مسألة التعويضات واسترداد الحقوق المسلوبة وإنصاف المظلومين تدخل في إطار مسار العدالة الإنتقالية.
لا تراجع عن قرار التعويض
من جهته، أكد وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية سمير ديلو أن quot;الحكومة ثابتة على موقفها، ولن تتراجع عن قرار التعويض، على الرغم من الحملة الإعلامية التي تشنّ ضد التعويضاتquot;، مشيرًا إلى quot;عدم صحة المعطيات التي تناقلها الفضاء الافتراضي، ثم تداولتها وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة حول تخصيص مبالغ مالية طائلة كتعويض للمنتفعين بالعفو العامquot;.
وقال الوزير ديلو :quot;ليست هناك أية مراجعة أو أي تراجع عن التزام الدولة بالتعويض لجميع من اضطهدوا، مهما كانت انتماءاتهم السياسية، وإصلاح أضرارهم وإعادة بناء مسارهم الوظيفي، مهما كانت شدة الحملة الإعلامية التي تشنّquot;.
وأضاف quot;سيتم تعويض المستفيدين من قانون العفو العام من دون المسّ تحت أي ظرف بالتوازنات المالية للدولة أو بما يمكن من أن يعطل التزاماتها في مجال التشغيل أو دفع التنمية في الجهاتquot;.
من جانبه، بيّن رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر أنّ quot;الحسم في مسألة قانون التعويضات للمساجين السياسيين يبقى في انتظار قانون العدالة الإنتقالية، الذي سيأخذ في الإعتبار الحق المشروع لكل من يتمتع بالعفو التشريعي العامquot;.
وشدد بن جعفر على أنّ هذه المسألة تندرج في إطار العدالة الانتقاليّة، مؤكدًا أنّ هناك حالات استعجالية تتطلب تدخلاً عاجلاً، وستتولى الهياكل المختصة النظر في هذه الحالات، ومنها على سبيل المثال الذين طردوا سابقًا من عملهم.
وأشار وزير المالية المستقيل حسين الديماسي إلى أنّه quot;لا يعارض مبدأ التعويضاتquot;، فهو quot;حق شرعي، وما على المجموعة الوطنية إلا أن تعيد لهؤلاء الذين عذبوا وشردوا حقوقهمquot;، ولكن هذا التعويض يجب أن يكون quot;في الوقت المناسبquot;، والوقت المناسب هو عندما يستعيد الإقتصاد عافيته.
وأوضح المكلف بالإعلام في وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية الأستاذ شكيب درويش لـquot;إيلافquot; أنه quot;يمكن للدولة أن تتخذ جملة من الإجراءات على غرار التعويض لعدد من المواطنين في انتظار تشكيل الهيئة المختصة بالعدالة الإنتقالية من خلال قانون ينظم نشاطاتهاquot;.
وأضاف درويش: quot;هذه الفئات من المساجين السياسيين يعانون اليوم الخصخصة والفقر، وبالتالي من حقهم التعويض حتى يتجاوزوا الحرمان الذي يعيشونهquot;.
حساب مفتوح للتعويض
أكد شكيب درويش أنّه لم يتم الإتفاق حتى الآن لا على الآليات التي سيتم اعتمادها لتحديد مبالغ التعويض ولا على عدد الملفات المدروسة. وأوضح درويش أنّ: quot;هناك نقاشًا يدور حاليًا حول مسألة التعويضات للمساجين السياسيين، من خلال فتح حساب للتعويض في ميزانية الدولة.quot; وقال: quot;حساب مفتوح للهبات من الداخل والخارج ومن رجال الأعمال وغيرهم، وهو ما سيقلص مساهمة الدولة، وقد تمت مطالبة وزارة المالية بتحديد نسبة المساهمة في هذا الحساب بما لا يثقل كاهل ميزانية الدولة، ولا يدخل عليها إرباكًاquot;.
وأشار إلى أنّ التعويض سيكون من خلال المبالغ التي سيتم تجميعها، والتعامل مع الملفات على أساس الحالة الإجتماعية والعائلية والصحيةquot;. وأكّد وليد البناني عضو حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي أنّ الإحتجاجات تدخل ضمن quot;التوظيف السياسي لمسألة التعويضات للمساجين السياسيين، التي لم يصدر حتى الآن قانون خاص بها، وهي بالتالي لا تعدو أن تكون حملة مغرضة على الحكومةquot;.
ووصف وزير المالية المستقيل بأنه quot;وجه من وجوه المزايدة والمغالطة السياسيةquot;، متهمًا إياه بمحاولة quot;تبرير استقالته بالحديث عن مدى أحقية ضحايا الإستبداد والقمع بالتعويض المادي والمعنويquot;.
وأوضح البناني لـquot;إيلافquot; أنّ quot;التعويض لن يقتصر على مناضلي حزب بعينه، بل هو سيشمل كل المساجين السياسيين، مهما كانت إنتماءاتهم، وهو تعويض على سنوات الإضطهاد والقمع والإستبداد والسجنquot;. وأضاف quot;من حقّ هؤلاء على التونسيين quot;الإعتراف والتقدير والتعويضquot;.
وقال الصحبي عتيق، عضو حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي، لـquot;إيلافquot;، إنّ من حق ضحايا الظلم والإستبداد والسجون وفي إطار العدالة الإنتقالية أنّ يتحصلوا على تعويضات، وهذا حصل في كل الثورات، ورغم ذلك يمكن التشاور والنقاش حول هذه المسألة، والتوافق حول الإجراءات التي سيتم اتخاذها، وذلك في إطار إيجاد معادلة بين مصالح البلاد ومصالح المساجين السياسيين.
مبدأ الأولويات
أول الإحتجاجات كانت يوم أمس، حيث نظمت وقفة احتجاجية أمام مقرّ المجلس الوطني التأسيسي من طرف مجموعة من المواطنين الذين يحسبون على تيارات معارضة، مؤكدين أنّ مثل هذه التعويضات ستدخل خللاً على الميزانية العامة للدولة، ومعتبرين أنّ هذا المطلب ليس من الأولويات التي تتمثل أساسًا في ثنائية التشغيل والتنمية، ومتّهمين حركة النهضة بخدمة مصالحها.
وأشار الطاهر هملية عضو المؤتمر من أجل الجمهورية في المجلس الوطني التأسيسي في إفادة لـquot;إيلافquot; إلى أنّ quot;كل أفراد الشعب التونسي تعرّضوا للإستبداد والعنف والمضايقاتquot;، وبالتالي تساءل quot;ألا يحق لهذا الشعب بكل أفراده التعويض عن ستين عامًا من القهر؟quot;. وأضاف: quot;مطالب التعويض للمساجين السياسيين تفتقر إلى الثورية والنضالية نفسها، لأن من ناضل لا يطالب بالتعويض عن نضالهquot;.
واعتبر علي الحويجي عضو العريضة الشعبية في المجلس الوطني التأسيسي أنه quot;كان أولى بالحكومة تخصيص المبالغ المزمع تقديمها كتعويضات للمساجين السياسيين، والتي تجاوزت حسب تقديرات وزير المالية المستقيل 1.2 مليار دينار، لحل مشاغل التشغيل والتنمية والفقر الذي تعانيه نسبة كبيرة من المجتمع التونسيquot;.
مبدأ الملاءمة
هذا وأصدر حزب المجد من ناحيته بيانًا مذكرًا فيه بأنّ العفو التشريعي العام كان مطلبًا للحركة النضالية التونسية على امتداد أكثر من عشريتين. وأكد أنّ quot;مبدأ تعويض الدولة عن أخطائها هو مبدأ قانوني، يقرّه القضاء العدلي والقضاء الإداري، كما هو مبدأ ثوري، طبقته كل الثورات العادلة، وتستجيب له الأنفس المطمئنة لحقوق المواطنة ولروح مبادئ الثورةquot;.
غير أن جلال المبدأ ونبله لا يعني تمرير القانون من دون تحقيق جملة من الشروط، ومن أهمها quot;ربط قانون التعويض بسياق العدالة الانتقاليةquot;، وquot;إجراء حوار وطني حول مجال التعويض والمنتفعين بهquot;، وquot;إبعاد الرؤى والمصالح السياسية الضيقة وإعلاء روح المواطنة في النظر إلى الموضوعquot;، إلى جانب quot;تحقيق التوازنات المالية للبلاد التونسية، بحيث يحقق مبدأ الملاءمة بين تحقيق العدالة وكلفتها، سواء بإيجاد أشكال تعويضية غير مرهقة أو بتقسيط التعويض على ميزانيات عدةquot;.
وعبّرت quot;حركة وفاءquot; في بيانها الذي إطلعت عليه quot;إيلافquot; عن quot;مساندتها غير المشروطة لكل ضحايا الاستبداد من عائلات الشهداء والمعتقلين السابقين من كل الأطياف السياسية والحقوقية والنقابية والإعلامية في التمتع، لمن رغب منهم، في التعويض الماديquot;.
وأضاف البيان: quot;إنّ التعويض لضحايا الاستبداد هو من صميم مبادئ العدالة الانتقالية، ويجب ألا يكون بأي حال موضوع تجاذب أو خلاف لخدمة أجندة أية جهة سياسيةquot;.
التعليقات