بعدما ضج بحياة لم تعرفها مصر ومن قبل، وبعدما خلع مبارك عن عرشه في 18 يومًا، خلى ميدان التحرير من الثوار الحقيقيين، واحتله شبان يقتاتون من فتات الثورة، وآخرون بلطجية وفتوات، وسياح أتت بهم وكالات السفر لزيارة هذا المعلم الثوري.


ميدان التحرير مكان موحش وبغيض في ساعة الغروب. وعندما تهب الريح، تتطاير النفايات المتناثرة في الميدان مارة بالوجوه المبتسمة لشبان قُتلوا في مواجهات ضد النظام، فقرر رفاقهم إحياء ذكراهم برسم وجوههم على الجدران الممتدة على طول شارع محمد محمود. وتنتقل من الميدان إلى السلالم القذرة لمحطة المترو المحلية التي تنبعث منها رائحة الإهمال، مرورًا بثلة من الشباب اقاموا حاجزا يمنع حركة المرور من اختراق الميدان.

فتوة شباب

كان شاب قوي يتولى السيطرة على حركة المرور ذات مساء. تتقدم سيارة صديقة ببطء نحو الحاجز فتُدفع الحواجز المعدنية جانبًا لتسهيل مرورها نحو النيل، مع ابتسامة وتحية يلوُّح بها السائق. تحاول سيارة عتيقة حُشر فيها ثلاثة اطفال وأمهم، وجلس الزوج وراء المقود أن تشق طريقها وراء سيارة الصديق، لكن المراقب الشاب يسارع إلى غلق الحاجز ويبدأ بالضرب على مقدم السيارة.
تشرئب المرأة برأسها غاضبة وتطلق سيلًا من الشتائم على الشاب، الذي نصَّب نفسه ثوريا يقطع الطريق. تتقدم شلة من اصدقائه يحمل بعضهم قضبانًا، فتستسلم العائلة وتنطلق في رحلة قد تستغرقها ساعة لقطع نحو كيلومترين بالالتفاف حول الميدان.
ثم يأتي سائق سيارة أجرة حانق، يثب من سيارته صائحًا أنه يريد أن يكسب رزقه. يحاول فتح الحاجز عنوة، فيصفر الشاب طالبًا تعزيزات، ويهرع المزيد من اصحابه للوقوف معه. يتقدم رجل أكبر سنًا ويقف في مواجهة السائق قائلًا: quot;اقترح أن تغادر الآن إلا إذا كنت تريد المشي إلى البيتquot;. فيستسلم ويعود من حيث أتى شاتمًا، من دون أن يكترث المتمركزون في الميدان بطريقته في توديعهم.

وجود بلا معنى

هذا هو الواقع اليومي الكئيب لميدان التحرير بعد نحو عامين على الانتفاضة التي أسقطت الرئيس المخلوع حسني مبارك. فقد رحل الثوار الشبان الذين احتشد بهم الميدان في العام 2011، ويشغل خيامه الآن باعة ومشردون وشباب من مشجعي كرة القدم المعروفين باسم الألتراس.
يبدو أن لا معنى لوجود هؤلاء في ميدان التحرير ، إذ غابت الطاقة المتفجرة والعاطفة المتقدة، وبدأت بعض المكاتب السياحية ذات المخيلة التجارية تصطحب افواجًا من السياح الأجانب إلى الميدان في quot;تورات سياحية ثوريةquot;.
أما الثورة الحقيقية فموجودة في كل مكان، في الرسوم والشعارات الجدارية، وفي آثار المعارك التي خاضها الثوار. لكن مهما بلغ عدد الموجودين في الميدان اليوم، فهناك احساس بفراغه، لأن مصر تجاوزت تلك المرحلة حين كانت المعارضة تشكل كل شيء. وحان الوقت لأن يكون المرء مع طرف ضد آخر، وهذه مشكلة لا تُعالج بالاحتجاجات الجماهيرية.

مكان خطر

ما زال هناك الكثير من المظالم الحقيقية في مصر، وما زال البعض يأمل بأن يحيي الميدان مجده السابق في الذكرى الثانية للثورة، في 25 كانون الثاني (يناير) الحالي. لكن الميدان في هذه الأثناء مكان بلا هوية، واحيانًا مكان خطر.
في الاسبوع الماضي، أُلقيت زجاجة حارقة على مقر الجامعة العربية من دون أن تلحق اضرارًا.
وفي نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أُصيب مهند سمير الناشط في حركة 6 ابريل الشبابية برصاصة في رأسه، أُطلقت عليه في ميدان التحرير. وثمة من يقول إن سمير كان مستهدفًا لأنه شهد مقتل الناشط رامي الشرقاوي في مكان قريب من الميدان، في العام 2011، وكان مستعدًا للإدلاء بشهادته عما رآه.
وعندما أُطلق النار على سمير، كان خارجا لتوه من السجن، حيث أمضى ثمانية أشهر لمشاركته في الاحتجاجات أواخر العام 2011.
ويرفع محمد المصري، من الألتراس، قميصه بفخر ليُري مراسل صحيفة كريستيان ساينس مونيتور آثر الجرح الذي أُصيب به، عندما غُرزت في صدره سكين قبل بضعة أسابيع. وحين سُئل من طعنه أجاب: quot;بلطجي ملتحquot;.
وعن سبب بقائه في ميدان التحرير، قال المصري إنه يريد العدالة لأكثر من 70 مشجعًا كرويًا لاقوا حتفهم في اشتباكات بورسعيد في شباط (فبراير) 2012. ويعتقد الالتراس أن الانقضاض على المشجعين كان مدعومًا من الجيش لمعاقبتهم على دعمهم الثورة.

لم يعد مجديًا

ما يعيشه رجل الشارع المصري في مرحلة ما بعد الثورة هو زحمة السير الناجمة عن كثرة الحواجز، التي تحول ركوب السيارة أو الحافلة في القاهرة من كابوس إلى كابوس كبير، يضاف إليها جدار شيدته الحكومة لقطع الشارع المؤدي إلى البرلمان.
ولا ريب في أن الرئيس محمد مرسي، الذي اصبحت جماعة الأخوان المسلمين التي خرج منها هدفًا لغضب المحتجين، يشعر بالسعادة لأن احتكاك المواطن المصري بالثورة يعني جولة يومية من الاحباط والمواعيد الفائتة والتأخيرات الطويلة في الوصول إلى مكان العمل والعودة منه إلى البيت.
إلا أن الأمل موجود دائمًا. فالثوار الطامحون للتغيير تخطوا مرحلة ميدان التحرير، وهم ينتظمون الآن في احزاب سياسية أو حركات مستقلة للمطالبة بتعديل الدستور الجديد والغاء المحاكمات العسكرية للمدنيين. وبذلك، انتهى ميدان التحرير الذي أسقط مبارك في 18 يومًا من الاحتجاجات.
ولعل مستقبلًا أفضل ينتظر مصر، لكن المعركة من أجله تُخاض في عالم السياسة القذر، حيث تتمتع قلة فقط من ناشطي ميدان التحرير بالخبرة لخوض غماره. ونقلت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور عن الشاب مصطفى عيد، الذي يئس من جدوى الاحتجاجات الجماهيرية، في الوقت الحاضر على الأقل، قوله: quot;احتججنا ذات مرة ونجحنا، فواصلنا الاحتجاج المرة تلو الأخرى وبقينا نعود إلى الأسلوب نفسه، بالرغم من أنه لم يعد مجديًاquot;.