لقي اختيار باريس الدخول في حرب ضد الجماعات المتطرفة في مالي إجماعًا سياسيًا في فرنسا، إلا أن الأخطار المحيطة بالحرب غابت في مجموع نقاطها عن الحكومة الفرنسية، برأيي بعض المراقبين الذين يشيرون إلى حاجة فرنسا إلى دعم دولي، لأنها ومواطنيها عرضة للتهديدات الإرهابية.

باريس: لم تصطدم الحكومة الفرنسية بمعارضة داخلية توجه لها سهام النقد ضد تدخلها العسكري في مالي. وحصل ما يمكن أن يوصف بإجماع سياسي فرنسي حول باريس وهي تعلن دعمها العسكري البري للقوات المالية ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة. ويرى المراقبون أن جميع المبررات التي ساقتها الحكومة الفرنسية لهذا التدخل لها أساس قانوني ودولي. وتعتبر باريس أنها دخلت هذه الحرب بعد طلب من الرئيس المالي البروفيسور ديونكوندا تراوري، ووفقًا للقرار الأممي رقم 085، كما أن هذا التدخل ينسجم مع الدستور الفرنسي.
أهمية استراتيجية
يؤكد الإعلامي والمحلل السياسي يوسف التسوري أن باريس نجحت على المستويين السياسي والدبلوماسي في إقناع أعضاء مجلس الأمن خلال اجتماع رسمي بضرورة التدخل، بل تلقت منهم أيضًا دعما لوجستيًا شكل سندًا لها في هذه الحرب.
أضاف التسوري: quot;تلقت فرنسا أيضًا دعم الدول المجاورة لمالي، فبعضها يستعد لإرسال وحدات عسكرية وبعضها الآخر سمح لها باستعمال مجالها الجوي، ويبدو أن فرنسا أقنعت المجتمع الدولي بضرورة التدخل العسكري لكبح تقدم المتشددين داخل التراب المالي خشية أن التشدد إلى دول أخرى في شمال أفريقيا، ظلت نموذجًا للاعتدالquot;.
داخليًا، يوضح التسوري أن كل الأحزاب السياسية الفرنسية، بما فيها أحزاب المعارضة، تدعم قرار هولاند بشن الحرب في مالي. فكل هذه الأحزاب تعي أهمية الحفاظ على المصالح الفرنسية في تلك المنطقة الغنية باليورانيوم، وأهمية حماية الرعايا الفرنسيين المقيمين هناك.
ولا يستبعد الملاحظون الرهانات الجيواستراتيجية لهذا التدخل في منطقة مالي موريتانيا والجزائر، الغنية بآبار البترول والغاز التي لم تستغل بعد. كما تعد مالي البلد الأفريقي الثالث المنتج للذهب، إضافة إلى وجود شركة أريفا الفرنسية غير بعيد عن المنطقة حيث تنتج الأورانيوم.
تمرس في القتال
ميدانيًا، يرى مراقبون أن الجماعات الإسلامية المسلحة، بفعل تمرسها في ساحات الحرب في المنطقة أو في دول أخرى كأفغانستان، سعت لأن تدفع بالتهديد العسكري الأفريقي الذي كان يلاحقها بعيدًا عن معاقلها بالشمال، ولتعقيد مهمة هذه القوات بإخضاع مدينة سيفاري لسلطتها.
ففي مدينة سيفاري مطار دولي، واحتلاله من طرف الجماعات الإسلامية المتطرفة كان يعني استحالة دخول قوات مجموعة غرب أفريقيا على خط المواجهة، جنبًا إلى جنب مع نظيرتها المالية. كما أن سقوط هذه المدينة بيد الإسلاميين المتطرفين كان سيؤدي إلى سقوط مدينة تومبوكتو كذلك، وبالتالي سيكون من الوارد جدًا أن يقع كامل هذا البلد في أيدي المتشددين.
لا تخفي فرنسا أنها تفاجأت بمستوى العتاد والتنظيم العسكري لجماعة أنصار الدين، وجماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا والقاعدة في المغرب الإسلامي، التي تضامنت في ما بينها للتمسك بمواقعها وتشتيت تركيز الضغط العسكري والدولي عليها بالقيام بعمليات إرهابية موازية كما حدث في الجزائر.
فرنسا وحيدة
يرى مراقبون فرنسيون أن باريس لا يمكنها وحدها أن تصد هذه الجماعات عن مالي، ولربما دفعت قضية الرهائن في الجزائر بأطراف دولية إلى إعادة التفكير في مقاربتها لهذه الأزمة، خصوصًا الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا. وكان الرئيس الفرنسي قام بجولة في الخليج أثير فيها دعم دول المنطقة لفرنسا في حربها هذه.
ويقول ماتيو غيدير، المختص في الجماعات الإسلامية المتطرفة، إن فرنسا هي البلد الغربي الوحيد الذي يدخل في حرب ضد الإرهاب اليوم، ما يجعلها على رأس أهداف الجهاديين، وما يدخا الجالية الفرنسية دائرة التهديد في كل أنحاء أفريقياquot;.
وكانت السلطات الفرنسية اتخذت التهديدات الإرهابية من الإسلامين المتطرفين في مالي على محمل الجد، ورفعت مستوى تأهبها الأمني، بالرغم من أن هذه الجماعات لا تملك شبكات الإرهابية، والخوف من أن يتصرف إرهابي بمفرده. إلا أن التسوري يرى أن quot;احتمالات تنفيذ عمليات إرهابية، سواء داخل مالي أو خارجها، تبقى عالية، وهو ما يفسر رفع عدد من الدول ومن بينها فرنسا حالة التأهبquot;.
أزمة مالي الدولية
يوضح التسوري أن quot;التدخل العسكري الفرنسي في مالي حوّل الأزمة من أزمة داخلية في مالي إلى أزمة دولية، وبالتالي ستكون تداعياتها الأمنية أوسع على المستوى الجغرافي، وهو ما تبين من خلال عملية احتجاز الرهائن في الجزائر المجاورةquot;.
ويتابع قائلًا: quot;قد تحاول المجموعات أو الخلايا التي تتقاطع أيديولوجيًا مع المتشددين في مالي دعم هؤلاء من خلال تنفيذ عمليات موازية في مناطق أخرى من العالم، بهدف تصوير التنظيم بصورة من يستحيل القضاء عليه، وأيضًا ليكون لها تأثير نفسي يعطي الانطباع أنها قادرة على تنفيذ عمليات في كل وقت وفي كل مكانquot;.
ويفسر التسوري التحول الحاصل في الموقف الجزائري، بعد سماحه للطيران العسكري الفرنسي باختراق مجاله الجوي لضرب هذه الجماعات، بأن الجزائر كانت تراهن على الحوار لتسوية تلك الأزمة، quot;وسعت إلى تنظيم اجتماعات عدة، على أمل أن تنجح في نزع فتيل الأزمة من دون الحاجة إلى اللجوء لخيار القوة، فهي كانت تخشى أن يتسبب التدخل العسكري في تصدير الأزمة نحو حدودها الجنوبيةquot;.
لكن تحرك المتشددين، يستدرك التسوري، للسيطرة على مناطق أخرى في الأيام الأخيرة، وأيضًا زيارة فرانسوا هولاند للجزائر ، quot;جعلها تراجع موقفها وتقتنع بأن استمرار المتشددين في السيطرة على أراض مالية أمر قد يتسبب عاجلًا أم آجلًا في زعزعة استقرار منطقة شمال أفريقيا بأكملها، وبأن سيناريو شبيه بسيناريو أفغانستان قد يصبح واقعًا في مالي، التي تربطها مع الجزائر بحدود طويلة يستحيل ضبطها بشكل تامquot;.