فازت القوات الفرنسية في أولى جولات القتال في مالي بتحرير مدينة ديابالي من الجماعات الإسلامية المسلحة، لكن جولات كثيرة بانتظارها، تحمل في طياتها تحديات عسكرية لا تخلو من الخطر. لذا تريد باريس العودة إلى خطة الأمم المتحدة الأصلية، وتنتظر وصول القوات الأفريقية.


بعد ثلاثة أيام على إرسال فرنسا طائراتها الحربية الهادرة في أجواء غرب أفريقيا، اندفع رتل مؤلف من 50 عربة محمّلة بمسلحين إسلاميين جنوبًا في باطن الصحراء، متخطّين أحد مواقع الجيش المالي في قرية دوغفراي، قبل أن ينحرفوا عن الطريق باتجاه الأحراش. ثم انقسمت القافلة، فواصل مقاتلون رحلتهم جنوبًا، حيث قاموا بالاستدارة للهجوم على إحدى قواعد الجيش المالي ومباغتتها من الخلف.

انطلق مقاتلون آخرون على الأقدام بمحاذاة أحد المستنقعات للالتفاف على الجنود الماليين خلال المعركة. واشتبك معهم الجنود الماليون، ثم لاذوا بالفرار. وركض عمر تراوري، مثله مثل غالبية القرويين في بلدة ديابالي، مخترقًا الحقول الخضراء للاختباء والنجاة بنفسه.

خلال الأيام والليالي الأربع التالية، كانت الطائرات والمروحيات تحوم في سماء المنطقة، فيما كانت زخات من الأسلحة الآلية تُطلق عليها. ثم ران الصمت، وانتظر تراوري ساعات عدة قبل أن يغامر بالخروج من مخبئه.

غادر الرجال الملتحون القادمون من الصحراء بصورة مفاجئة، مخلفين وراءهم ذكرى متفحمة. وقال تراوري لصحيفة نيويورك تايمز: quot;كان القصف شديدًا، وكانت هناك شاحنات محترقة في كل أنحاء الحي الذي أسكنهquot;.

حرب ضروس
فازت فرنسا بالجولة الأولى من حربها في أفريقيا، ولكن ليس بالسلاسة، التي كان اعتقدها مخططوها العسكريون. وحين نجح الجيش الفرنسي في وقف تقدم الإسلاميين جنوبًا، لقنت الميليشيات الإسلامية الفرنسيين درسًا سريعًا، مؤكدين عزمهم المواجهة والتصدي.

وقال تراوري: quot;أراد الفرنسيون إجبار المتمردين على التحرك، ليضربوهم أثناء هروبهمquot;. وجرب المتمردون كل شيء للإفلات من القصف الجوي، بما في ذلك الاختفاء تحت الأشجار وتمويه الشاحنات بالطين والأغصان، وذهبوا إلى حد اقتحام بيوت المدنيين أحيانًا مهدمين الجدران لنشر مدافعهم في أماكن لن يقصفها الفرنسيون. لكنهم اضطروا في النهاية إلى الانسحاب.

لكن المتمردين اكتشفوا ثغرة كبيرة في قوة فرنسا العسكرية. فباريس لم تتوصل حتى الآن إلى حل للحرب البرية، فالمرحلة الأولى من حرب فرنسا في مالي جرت في وسط البلاد، حيث يمكن تأمين موقع ثابت، بالسيطرة على جسر هنا وإقامة حاجز تفتيش هناك. لكن الأمر مختلف في الصحراء، التي يعرفها المتمردون كما يعرفون باطن يدهم.

هناك، يحتاج الفرنسيون مقاتلين، في حين أن الجيش المالي ليس بالمستوى العسكري المطلوب. فحتى بعد انسحاب المتمردين من ديابالي، رفض الجيش المالي العودة إليها طيلة 24 ساعة. وحين دخلها، كان يرفض المبيت فيها ليلًا. ولم يُشنّ هجوم أرضي على موقع المتمردين حتى مع توافر إسناد جوي من الطائرات الفرنسية.

عودة إلى الخطة الأصلية
امتنعت فرنسا حتى الآن عن أخذ هذا العمل الشاق على عاتقها. وباستثناء القوات الخاصة الفرنسية، التي نُشرت لمساعدة العمليات الجوية على الأرض، فإن القوات الفرنسية التي زاد عددها الآن على 2000 جندي في مالي، ظلت تتمركز في جنوب الخطوط المالية.

أسفر إصرار الفرنسيين على تقدم قوات أفريقية إلى موقع الصدارة عن إحياء خطة الأمم المتحدة الأصلية للتدخل، بتشكيل قوة من دول غرب أفريقيا لم تر النور حتى الآن. وقالت الأمم المتحدة إن تشكيل مثل هذه القوة يستغرق حتى أيلول (سبتمبر) قبل أن يمكن نشرها. وأخذ جنودها يتقاطرون منذ الآن إلى العاصمة باماكو بوتيرة متسارعة، لكنها تفتقر حتى اليوم لهيكل قيادي محدَّد المعالم.

ومن الخيارات المتاحة أمام فرنسا تأمين وسط مالي وجنوبها والانتظار أسابيع أو أشهرًا على الأرجح إلى أن تكون القوة الأفريقية جاهزة للانطلاق، نظريًا على الأقل. لكن المشكلة تكمن في أن الوقت لا يعمل لمصلحة فرنسا. فالإسلاميون يحكمون شمال مالي منذ الربيع الماضي، وكل شهر يمر يمنح المتمردين مزيدًا من الوقت لمعالجة موطن ضعفهم الأبرز، وهو تأييد السكان المحليين أو بالأحرى غيابه.

كانوا لطيفين
يتمتع التدخل الفرنسي بشعبية واسعة حتى الآن في مالي. فالماليون لا يريدون محاضرات في الإسلام يلقيها عليهم متزمتون، لأن 90 بالمئة من سكان مالي مسلمون أصلًا، ومدينة تمبكتو التي سيطر عليها الإسلاميون في وقت سابق من العام، كانت مركزًا علميًا وثقافيًا مرموقًا في الحضارة الإسلامية. كما يتهمون المتمردين بالمسؤولية عن انهيار بلدهم.

لكن الإسلاميين يعملون جاهدين على تحسين صورتهم، خصوصًا بين الشباب. وقال فلوسيني تراوري من بلدة ديابالي لصحيفة نيويورك تايمز إن الإسلاميين quot;كانوا يعرضون علينا المال والحلوى، ويقولون إننا نستطيع الانضمام إليهم، ولم يكونوا فظين، بل حاولوا أن يكونوا لطيفينquot;.

كما إن مرور مزيد من الوقت يتيح مجالًا أوسع لإعادة تنظيم الصفوف والتحضير للهجوم المقبل. ويعترف مسؤولون أميركيون بأن تحالف الجماعات الإسلامية، ومنها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، غير محكوم بالوقت.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية فكتوريا نولاند عن هجوم الإسلاميين ردًا على الحملة الفرنسية: quot;من سمات أفراد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أنهم مدرَّبون تدريبًا حسنًا وشديدو الفاعلية، لا سيما إذا لم يكن هناك ضغط مضاد عليهم، كما كانت الحال إلى أن قام الفرنسيون بحملتهم العسكريةquot;.

امتنع الآخرون
لتسريع العملية، يجرب الفرنسيون مقاربة هجينة، بتشكيل قوة مختلطة من الجنود النيجيريين والتشاديين، الذين يعتبرون الأشد بأسًا بين جنود الدول المساهمة في القوة الأفريقية، للتقدم إلى الخطوط الأمامية والتمركز بجانب القوات الفرنسية، إلى أن يُنجز إعداد القوات الأفريقية الأخرى وتدريبها.

ويلاحظ مراقبون أن فرنسا تحركت عندما امتنع الآخرون عن التحرك، بمن فيهم الولايات المتحدة. فإن سقوط مالي بأيدي إسلاميين من نمط طالبان، كان من شأنه أن يسفر عن إقامة قاعدة إرهابية، يمكن الوصول إليها من أي زاوية تقريبًا، من شمال أفريقيا وغربها ووسطها.

بحسب هؤلاء المراقبين، كانت شكوك الأميركيين في تسبب أزمة مالي بتداعيات مباشرة على الأمن القومي قصيرة النظر. وكما أظهرت أزمة الرهائن في الجزائر والهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، فإن أزمة مالي امتدت بالفعل أبعد من حدودها. ولو لم يتحرك أحد لمنع الإسلاميين من السيطرة على كل مالي، لكانت الكارثة على المنطقة عمومًا أشد وطأة بكثير. ولكن إذ يفكر الفرنسيون في مواصلة حملتهم باتجاه الشمال فإن مطبات كثيرة تنتظرهم في رمال المنطقة.