انتشر الكتاب الأسود الذي أصدرته الرئاسة التونسية وفيه وثائق عن صحافيين متورطين مع نظام حكم زين العابدين بن علي، فأحدث ضجيجًا كبيرًا، ولا بد من الاعتراف بأنه عمل أكاديمي موثق بامتياز.


دبي: كتاب استغرق أشهرًا من التحضير في دائرة الاعلام والتواصل برئاسة الجمهورية التونسية، بعد ثورة الياسمين طبعًا، وبعد جلوس المنصف المرزوقي على كرسي الرئاسة. ليست مادة الكتاب إلا ما نجا من وثائق دائرة الاعلام من الاتلاف، قبل المرزوقي. إنه الكتاب التونسي الأسود، وعنوانه quot;منظومة الدعاية تحت حكم بن عليquot;، الذي تسربت مقاطع منه قبل حين، إلى أن صار كاملًا في متناول الجميع.

سيطرة محكمة

إنه كتاب أسود، بلا شك، إذ بين دفتيه يحصر في كلمة واحدة: الفساد. على الرغم من أن لهذا الفساد أوجهًا كثيرة، إلا أن كل طرقاته، كما يقول الكتاب صراحة وتلميحًا، تؤدي إلى حكم زين العابدين بن علي، الذي خلعته ثورة الياسمين، التي بها ابتدأت سلسلة الربيع العربي.

من أوجه الفساد التي يعرضها الكتاب الأسود ما يمكن أن يكون الأكثر الصراحة، وهو الوكالة التونسية للاتصال الخارجي، التي يقول عنها كاتبو الكتاب إنها سخرت أقلامًا كبيرة للتبخير لبن علي ونظامه، في الداخل وفي الخارج، خصوصًا أن الوكالة quot;تمكنت من إحكام السيطرة على المشهد الاعلامي، من خلال بسط نفوذها على الصحافة المكتوبة، وعلى المشهد السمعي والبصري العام والخاص داخل تونسquot;، وأنها تسعى لتمجيد الانجازات المحققة في ظل بن علي، quot;وتعتمد الوكالة لتحقيق هذا الهدف على جملة من المعاونين من الاعلاميين والاتصاليين التونسييين والأجانب، ومع عدد من المؤسسات الأجنبية المختصة، لتنحت لتونس صورة ناصعة الاشراق لدى المجتمعات الغربيةquot;.

تونسيون وأجانب

على جملة quot;وتعتمد... إلخquot;، بنت لجنة انتدبتها رئاسة الجمهورية التونسية، من دون أن تسميها أصلًا في أي مكان من الكتاب أو في أي وسلية إعلامية ممكنة، بنت جداول من بينات الفساد العام، كشراء كتب وإلزام الادارات الرسمية بها، أو تأليف كتاب عن زوجة بن علي وطبعه في بيروت، وتوجيه الصحافيين quot;ماليًاquot; للكتابة عن حرية التعبير التي ينعم بها أي صحافي في تونس، وتجنيد صحافيين وإعلاميين ومحامين وفاعلين في المجتمع التونسي، وأجانب للمشاركة في منابر حوارية على فضائيات أجنبية، تدافع عن مكتسبات عهد بن علي، الذي عرف بعهد التغيير، وبينهم التونسيون برهان بسيس، ومنصف قوجة، وسلوى التارزي، وحسان المناعي، وأبو بكر الصغير، والحبيب عاشور، وسمير بن عبدالله، ونورالدين بوطار، ورضا الملولي، وهشام الحاجي، وصلاح الدين الغريسي، والأردني عبدالله القاق، واللبنانيان يونس عودة وبولا يعقوبيان. وهؤلاء وردت أسماؤهم فقط في مسألة التغطية الإعلامية بالذكر 18 للسابع من تشرين الثاني (نوفمبر).

ونقلت اللجنة إلى متن الكتاب مضمون ما وصلها من وثائق quot;سوداءquot;، بالتفصيل والتمثيل، حتى تورد جداول تثبت البدلات المالية التي يتقاضاها كل من الصحافيين المبخرين لنظام بن علي عن كل مادة، فبدل الخبر الواحد 50 دينارًا، والمقال 100 دينار، والتقرير 200 دينار، إلى آخر الجدول. وإلى جانبها جداول أخرى تثبت اسم الصحافي أو الكاتب المتعاون، ومهماته، والمبالغ المرصودة له.

بالتفصيل والجداول

الكتاب، بلا شك، نتاج جهد لجنة أكاديمية عالية المستوى، إذ لم يغادر تفصيلًا من تفاصيل الفساد في منظومة الدعاية لبن علي ونظامه وأركانه إلا وذكرها، مسميًا المؤسسات الصحافية والاعلامية، التونسية وغير التونسية، بأسمائها، ومبينًا الدوافع والمهمات، ومدعمًا كل ما يدعيه من تفاصيل بالوثائق المحققة، بتواريخها وأمكنتها، والأطراف فيها.

وفي الملف الثالث من ملفات الكتاب العديدة، تورد اللجنة التي تولت إعداد هذا الكتاب الأسود أسماء 90 من الصحافيين الموالين للنظام السابق والمتعاونين معه. وبين هذه الأسماء أفراد تصدروا الشاشات الفضائية التونسية والعربية، وصفحات الجرائد، تحليلًا وتمجيدًا بثورة الياسمين، وعرضًا لخبراتهم السياسية والصحافية من أجل المساهمة في إخراج تونس من ورطتها السياسية اليوم، مع وصول الاسلاميين إلى الحكم.

إن إيراد أسماء 90 من كبار الصحافيين في تاريخ الاعلام التونسي مسألة مهمة جدًا، يمكن تصنيفها اليوم في باب تسميتهم بفلول العهد السابق، خصوصًا أن العصر الحالي يتحرك على نغمتين اثنتين، الاسلاميين والفلول، وما بينهما من همهمات الثوار الحقيقيين المخنوقة، بعدما وقعوا بين مطرقة النهضة الاسلامية المزعومة وسندان خبرة الفلول في الـ quot;سابوتاجquot; السياسي، بسبب تراجع خبرة هؤلاء الثوار السياسية، وانقسام آرائهم حول هوية الدولة التي يريدون بناءها.

تحت كل اسم من هؤلاء الـ 90 نبذة عنه، وعن المهمات التي أوكلت إليه أيام بن علي، والخدمات التي قدمها للنظام، وجردة بمقالاته والصحف التي نشرت فيها، بتواريخها المحددة.

في وقته

السؤال الذي يدور اليوم في تونس هو: هل هذا التوقيت مناسب لتسرب رئاسة الجمهورية التونسية أسماء فلول حكم بن علي، خصوصًا أن ثمة في تونس من ينجح دائمًا في استخدام أي وثيقة أو حدث ضمن البروباغاندا التي تخدم مصالحه، في زمن تتعرض الثورة التونسية فيه لأقسى التجارب الديمقراطية.

هذا الاستخدام المصلحي لما يرد في هذا التقرير يضع العدالة الانتقالية التونسية على محك الافساد، يمكن أن يساهم في تسويفها سياسيًا، خدمة لأطراف عديدة، قد تكون الرئاسة التونسية مستفيدة منها، على الرغم من أن ما ورد في الكتاب أضاف الكثير من الأعداء للمرزوقي.

أما كلثوم بدر الدين، رئيسة لجنة التشريع في المجلس التأسيسي والمنتسبة إلى حركة النهضة الإسلامية، فرأت أن إصدار هذا الكتاب يأتي في وقته تمامًا، quot;في غياب التفاعل داخل المجلس التأسيسي إزاء قانون العدالة الانتقالية، الذي تم إيداعه منذ شهر تموز (يوليو) إلى جانب القوانين المتعلقة بالمحاسبة وكشف الأرشيفquot;، خصوصًا أن كشف الأرشيف كان من أهم مطالب الثورة التونسية منذ يومها ألأول.

إنتقائية مضرة

إن هذا الكتاب مجهول الهوية فعلًا. فليس من يعرف اسمًا لفرد من أفراد اللجنة التي صرفت عامين ونيف لجمع وثائقه وإصداره. وهذا أول مآخذ معارضيه والمشككين فيه، إلى مطعن آخر هو تغييب الكتاب أسماء كثيرة أخرى تواطأت مع بن علي، وتضمين أسماء يميزها بتاريخها النضالي، ما وضعته نقابة الصحافيين التونسيين ضمن عملية فضح إعلاميين، دون غيرهم، من الضالعين في الفساد، بانتقائية ترمي إلى ضرب حرية التعبير والصحافة وتركيع الإعلام بعد الثورة.

وكذلك عبرت الجامعة التونسية لمديري الصحف عن عميق استنكارها ما ورد من مغالطات خطيرة في الكتاب، مؤكدة احتفاظها بحقّ مقاضاة quot;كلّ المتورطين في حبك سيناريوهات التجريم التّي طالت أعضاءها دون وجه حقّ وذلك لدى المحاكم التونسية والهيئات والهياكل الممثلة دوليًاquot;.

وكذلك اعتبر سمير ديلو، وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، الكتاب معاكسًا لعقلية وذهنية وأدوات العدالة الانتقالية، فهو يضرّ ويشوّش على مسار العدالةquot;.

أضاف: quot;هذا الكتاب مخالف للعدالة الانتقائية شكلًا وروحًا وتوقيتًا وحتى المضمون، وهذا الأرشيف الذي تملكه رئاسة الجمهورية لا يمكن أن تتصرف فيه أي جهة كما تشاء، خصوصًا أنه قسّم الساحة من خلال ردود الأفعال بين ضحايا الماضي والمتورطين في نظام بن عليquot;.