لم تغلق المقاهي في مصر ابوابها حتى في اوج الاشتباكات الأخيرة، فرغم أن رائحة البارود والغاز كانت تزكم الانوف إلا أن بعض الرجال واصلوا مشاهدة مباريات كرة القدم ولعب الورق، معتبرين أن ما يجري في الخارج مقامرة من نوع آخر.


القاهرة: يستشف المتابع لشاشات الفضائيات أو المطالع لوسائل الإعلام بانوعها المختلفة أن مصر كتلة نيران مشتعلة، وأن الغالبية من المصريين يقفون أمام قصر الإتحادية يهتفون، أو في ميدان التحرير وميادين المحافظات معتصمون، ولكن على الجانب الآخر هناك مشهد غريب جداً، قد لا يراه المرابطون أمام الشاشات أو خلف أوراق الجرائد. إنه مشهد المصريين في المقاهي، حيث تراهم على شكل مجموعات صغيرة منشغلة أما في مشاهدة مباريات كرة القدم أو الأفلام الأميركية أو لعب الدومينو أو الكوتشينة والطاولة أو الشطرنج، وكل ذلك في محاولة منهم للهروب من الواقع المرير.

واد آخر

كانت الأوضاع مشتعلة في الأسبوع الأخير من شهر يناير الماضي، وتحديداً يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2013، فبينما كانت الإشتباكات تدور راحها على مدار الساعة بين قوات الشرطة ومحتجين في مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس والإسكندرية والمنصورة، إضافة إلى العاصمة القاهرة، كان رواد المقاهي القريبة من مواقع الإشتباكات يجلسون في واد آخر، يتابعون مباريات كرة القدم أو يلعبون الدومينو أو الشطرنج، وكأن شيئاً لا يحدث.

شيشة وشاي بالنعناع

وفي القاهرة، وعلى بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، وبالتحديد في مقهى يقع بالقرب من فندق رمسيس هيلتون المطل على النيل، كانت الإشتباكات تدور رحاها على كوبري قصر النيل، وكانت قنابل الغاز وأدخنة إطارات السيارات المشتعلة تعبق بسماء المنطقة، وأصوات الطلقات النارية تدوي فيها، إلا أن كل ذلك لم يمنع رواد ذلك المقهى من الاستمتاع بطقوسهم اليومية.

وبمجرد الولوج إلى الشارع الموجود به المقهى المواجه للفندق، يشعر المرء أنه دخل عالم آخر وبات منفصلاً عن الواقع، حيث يجلس الرجال بشكل دائري حول المناضد الخشبية، يحتسون أكواب الشاي بالنعناع والسحلب، ويدخنون الشيشة، ويمارسون لعبة الدومينو، فكان أربعة مناضدة مفروشة بالشارع، ويلتف حولها كالخاتم في الأصبع ثلاثة رجال على الأقل.

مباراة كرة القدم

في داخل المقهى كان المشهد يختلف كلياً، فالمكان مربع الشكل، ومتسع على عكس غالبية المقاهي القريبة من ميدان التحرير. وفي كل ركن من أركان المقهى، يوجد جهاز تليفزيون. يجلس أمام إحدى الشاشات مجموعة من المصريين يزيد عددهم على 15 رجلاً، ويشاهدون مبارة لكرة القدم، ويبدو عليهم الاهتمام الواضح. لم يكن فريق النادي الأهلي يلعب احدى مبارياته، في مواجهة فريق آخر. ولم يكن المنتخب المصري، بل كانت فرقاً أفريقية في مواجهة بعضها البعض. ورغم ذلك كان الجالسون أمام شاشة التليفزيون ينصتون بكل اهتمام إلى المباراة، وينفعلون مع كل تمرير جيدة أو هدف فشل اللاعب في إحرازه. كانوا يحتسون أكواب من الشاي والقهوة واليانسون، وغيرها من المشروبات مع تدخين الشيشة.

أفلام أميركية

في الركن المواجه، كان ثمة مجموعة أخرى من رواد المقهى يتحلقون حول شاشة التليفزيون يتابعون بإهتمام شديد فيلم quot;أكشنquot; أميركي، وبينما كانت علميات التفجير والقتل تجري ضمن أحداث الفيلم، كان المصريون في الخارج وعلى بعد أمتار يتراشقون بالزجاجات الحارقة وقنابل الغاز المسيل للدموع، الذي كانت رائحته تصل إلى أنوف رواد المقهى.

الكوتشينة أهم

وبينما يشاهد هؤلاء مباراة كرة القدم ويستمتع الآخرون بالفيلم الأميركي، كان ثمة ثلاثة شباب يجلسون في أحد جنبات المقهى، يلعبون الكوتشينة، اثنان منهم يتسابقان في لعبة quot;كونكانquot; وquot;بصرةquot;، ويسجل الثالث النقاط في ورقة إقتطعها من علبة الشاي الأميركي الصنع.

دخل شابان المقهى، وطلبا أن يتم تحويل مؤشر التليفزيون إلى إحدى القنوات الإخبارية لمتابعة ما يحدث، غير أن بعض الجالسين ممن يمارسون لعبة الدومينو رفضوا طلبهما، وقال للشابين: quot;بلاش غم، الأخبار ما تسرشquot;.

قمار السياسة

وقال أحد الشباب ممن يلعبون quot;الورقquot;، لـquot;إيلافquot; رداً على سؤال لها: quot;كيف يشعرون وهم يلعبون الكوتشينة، بينما الأوضاع مشتعلة في الخارج والقتلى والجرحي يتساقطون؟: quot;الدينا خلاص بقت فوضى، وكل واحد عاوز يبقى رئيس، وكل واحد بيستخدم الشباب عشان يوصل للكرسي، ومش مهم دمهم يروح هدر، المهم الكراسيquot;. وأضاف: quot;إحنا ملناش دعوة باللي برة دولquot;، وتابع: quot;بالمناسبة هما بيلعبوا كوتشينة زينا كده، بس هما بيلعبوا قمار، وإحنا مش بنلعب قمار.. هما بيلعبو قمار بدم الشبابquot;، وتدخل زميله في الحديث، وقال: الله ينتقم منهم جميعاً الإخوان وبتوع المعارضة خربوا البلد وكرهوا الناس في الثورة.. فين أيامك يا حسنيquot;.

الهروب

لم يكن رواد هذه المقهى وحده هم الهاربون من الواقع المرير إلى ما يعتقدون أنهم يخفف عنهم، بل كان رواد مقهى آخر قديم وفقير يطل على كوبري السادس من أكتوبر بميدان عبد المنعم رياض، يسلكون المسلك نفسه، ولكن مع إختلاف كبير. فالمقهى لا يمتلك سوى جهاز تليفزيون وأحد، تحلق حوله الغالبية العظمى من رواده يشاهدون مباراة كرة القدم، بينما كانت وما زالت جولات مباراة النار والدم تجرى في ميدان التحرير وكورنيش النيل وقصر الإتحادية، وغيرها من الميادين في المحافظات.