صدق الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز الوعد مع شعبه وظل وفياً له حتى رحيله بعد صراع مع مرض السرطان، فتشافيز كان رئيساً شعبياً لا يعقد اجتماعات منتظمة لحكومته بل يتحدث إلى الناس مباشرة ويدعو كثيرين إلى لقاء أسبوعي يبث إذاعياً وتلفزيونياً.
كان الرئيس هوغو تشافيز الذي اعلنت فنزويلا وفاته بعد صراع مع مرض السرطان، شغوفا بالكلمة، يكتبها ويقرأها وفي الغالب ينطقها. كان يتحدث للجمهور ما متوسطه 40 ساعة في الاسبوع.
وكان تشافيز، بصفته رئيسًا، لا يعقد اجتماعات منتظمة لحكومته بل كان يدعو كثيرين إلى لقاء أسبوعي يُبث إذاعياً وتلفزيونيًا على الهواء.
وكان برنامج quot;هلو ايها الرئيس!quot; الذي يطرح فيه تشافيز معالم سياساته ويناقشها مع المواطنين، بلا حدود زمنية وبلا نص معد مسبقا وبلا جهاز quot;تليبرومبترquot; يلقنه ما يقول.
وتضمنت احدى حلقات البرنامج نقاشا مفتوحا لنظام العناية الصحية في أحياء كراكاس الفقيرة وموسيقى الراب ومراجعة نقدية للفنزويليين الذين أدمنوا سياسة أموال النفط ويتوقعون من الرئيس ان يكون ساحرا، وسجالا وديا مع وفد من نيكاراغوا، وسجالا ليس وديا مع صحافي أجنبي.
ونيكاراغوا هي احدى الدول المتحالفة مع فنزويلا في منظمة quot;الباquot; الاقليمية التي شُكلت بمبادرة من تشافيز لمواجهة السياسة الليبرالية الجديدة بإطلاق العنان لاقتصاد السوق بلا ضوابط في المنطقة الى جانب كوبا وبوليفيا والايكوادور. واكتسبت المنظمة الإقليمية مكانة مرموقة بعد ان دعت دول الكاريبي والمكسيك للانضمام إليها وقبول فيتنام مراقبا. وستكون هذه المنظمة من أهم المنجزات في تركة تشافيز وتجسيدا عمليا لكلماته ورؤيته التاريخية.
وكانت الثورة البوليفارية في فنزويلا ذات أهمية حاسمة للفلسفة الأوسع التي تشترك بها مع فنزويلا وتطبقها عدة حكومات في اميركا اللاتينية. وهي تهدف إلى حل المشاكل العالمية من خلال إجراءات محلية واقليمية باستخدام ادوات الديمقراطية والدولة لتحويل العلاقة بينهما وبين المواطن بدلا من إلغاء دور الدولة ومحاولة تدميرها.
وبسبب هذه النظرة المشتركة اعتبر البرازيليون والاوروغوانيون والارجنتينيون تشافيز حليفا، وفلسفته ليست ظاهرة شاذة ، ودعموا عضوية فنزويلا في منظمة quot;ميركوسورquot; لدول المخروط الجنوبي في اميركا اللاتينينة. وتأكد أفق مثل هذه النظرة التحويلية من خلال برنامج quot;المهمات الاجتماعيةquot; الذي نفذه تشافيز بتوفير الخدمات الصحية والتعليم لمن كانوا محرومين منهما مغيرا حياتهم ومواقفهم السياسية.
وتُغني الأرقام نفسها عن الاسهاب في ما حققه برنامج تشافيز. فان نسبة العائلات الفقيرة انخفضت من 55 في المئة عام 1995 الى 16.4 في المئة عام 2009. وعندما تسلم تشافيز مقاليد الحكم كانت نسبة البطالة 15 في المئة لتنخفض الى 7.8 في المئة بحلول حزيران/يونيو 2009 على نقيض حاد مع معدلات البطالة حاليا في اوروبا. وفي تلك الفترة حصل تشافيز على 56 في المئة من الأصوات عام 1998 و60 في المئة عام 2000 وعاد الى الحكم بعد انقلاب عسكري عليه عام 2002 وحصل على 7 ملايين صوت عام 2006 وضمن 54 في المئة من الأصوات في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وكان تشافيز ظاهرة نادرة تكاد تكون عصية على فهم اولئك الذين ما زالوا في الولايات المتحدة واوروبا ينظرون إلى العالم بمنظار الحرب الباردة الذي يرى الأشياء بالأبيض والأسود فقط فلم يستوعبوا قط ان تشافيز الماركسي الصلب كان ديمقراطيا بالقدر نفسه من الصلابة. ولمن يعتقدون أن تعبير الجماهير عن ارادتهم يجب أن يكون له كان حدود أو يجب ألا يكون له مكان أصلا في عالم السياسة الجدي فان ندوات تشافيز وأقواله كانت دليلاً على زيفه وشعبويته. ولكن بالنسبة لمن كانوا يحضرون ويشاركون جماعيا فانها كانت ممارسة سياسية وديمقراطية حقيقية لا تقتصر على المتعلمين أو الموسورين أو المثقفين وحدهم، كما يلاحظ اوسكار غوارديولا ريفيرا في صحيفة الغارديان.
وكانت هذه الندوات وجسور التواصل المباشر مع المواطنين تعني تأكيدا متواصلا لوعد بين تشافيز والشعب. فإن تشافيز اكتشف ذاته ليس بالنظر الى الداخل فحسب بل بالنظر الى الخارج ايضا حيث رأى الظروف البائسة لشعوب أميركا اللاتينية وماضيها.
واكتشف نفسه في وعد بوليفار بالتحرير. وكتب تشافيز أن بوليفار quot;تسلق جبل ساكرو قرب روما في آب/اغسطس عام 1805 وقطع على نفسه عهدا مهيباquot;. وأقسم تشافيز، مثله مثل بوليفار، بكسر القيود التي تُبقي شعوب اميركا اللاتينية رهن ارادة القوي. وتفككت في زمن حياته علاقات التبعية والامبراطورية غير المباشرة.
ومن نهر بلايت إلى مصبات نهر اورينوكو لم تعد اميركا اللاتينية باحة خلفية لأحد. وأشرك مشروع التحرير في تحقيق اهدافه آلاف الرجال والنساء الذين انخرطوا في معركة ضارية تلو أخرى مثل الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب أو المواجهة مع منطقة التجارة الحرة للأميركيتين التي اقترحتها الولايات المتحدة.
وما زال مشروع التحرير غير منجز وقد يكون مشروعا دائمًا وبالتالي فان النضال سيتواصل بعد رحيل تشافيز. ولكن اياً يكن ما ينتظر شعوب اميركا اللاتينية في المستقبل فانها ستكافح لانقاذ الحاضر الذي استعادت فيه صوتها. وفي فنزويلا أعاد الشعب تشافيز إلى الرئاسة بعد الانقلاب.
وكان هذا هو الحدث بالغ الأهمية في حياة تشافيز السياسية ، وليس التمرد العسكري أو الانتصار الانتخابي الأول. فان شيئا تغير في داخله في تلك المرحلة واصبح انضباطه حديديا وصبره لا يُقهر وسياسته أوضح.
ورغم كل الأضواء التي سُلطت على العلاقة بين تشافيز وكاسترو فان الحقيقة غير المعروفة بالقدر نفسه من الرواج هي ان ثقافة تشافيز السياسية تدين لرئيس ماركسي آخر كان ايضا ديمقراطيا ملتزما هو الرئيس التشيلي سلفادور اليندي، كما يرى غوارديولا ريفيرا ناقلا عن تشافيز قوله ذات مرة quot;نحن، مثل اليندي، مسالمون وديمقراطيون، ونحن، بخلاف اليندي، مسلحونquot;.
يتسم الدرس الذي استخلصه تشافيز من قتل اليندي بانقلاب دموي عام 1973 بأهمية حاسمة. فان البعض مثل اليمين المتطرف والميليشيات المدعومة من الدولة في كولومبيا يتطلعون إلى انهيار مدرسة تشافيز السياسية، ولن يتورعوا عن إشاعة الفوضى عبر الحدود. وان دعم الجيش والجماهير الفنزويلية سيقرر مصير الثورة البوليفارية ومعه تضامن جيران أقوياء مثل البرازيل.
ولا احد يريد زعزعة الاستقرار الآن بعد نهضت أميركا اللاتينية أخيرًا للدفاع عن إرادتها. وشدد تشافيز في أيامه الأخيرة على ضرورة بناء قوة جماعية وشجع بعض منتقديه السابقين من المرتبطين بمجلة quot;كوميوناquot; واحتضنهم. ولن تنتكس الثورة لأن تشافيز، بخلاف بوليفار الذي كان الرئيس الفنزويلي الراحل معجبا به، لم يكن يحرث في البحر، على حد تعبير غواردويلا ريفيرا.
التعليقات