في نهاية العام الماضي، أوصى اللورد برايان ليفيسون بإنشاء هيئة قانونية ناظمة لعمل الصحف البريطانية، لأنها تفلتت من عقال الموضوعية والمصداقية، لكن دايفيد كاميرون اقترح ميثاقًا ملكيًا لأنه يخاف على حرية الصحافة. فلقي اقتراحه أصداء متناقضة، لأن الميثاق يفتح الباب أمام مراقبة ملكية للاعلام.
تعيش بريطانيا منذ نهايات العام 2012 نقاشًا حادًا، على وقع تقرير اللورد برايان ليفيسون، الذي أوصى بإنشاء هيئة ناظمة لقطاع الاعلام في بريطانيا.
وكان رئيس الحكومة البريطاني دايفيد كاميرون كلفه في العام 2011 التحقيق في فضيحة قرصنة الهواتف والتنصت عليها، التي انكشف تورط صحيفة quot;نيوز أوف ذا ورلدquot; فيها، وهي الصحيفة التي كان إمبراطور الاعلام روبرت مردوخ يملكها، قبل أن يقرر وقف صدورها، إثر الفضيحة.
فقد قامت هذه الصحيفة باختراق صندوق البريد الصوتي في هواتف نقالة، يملكها عدد من المشاهير والساسة البريطانيين. وإذ انكشف أمرها، انكشفت معها سلسلة من الصفقات الفاسدة بين صحافيين ومسؤولين في الشرطة البريطانية، ثبت تورط أحد محرري نيوز أوف ذا ورلد فيها، وهو يرتبط بصداقة متينة مع كاميرون.
ميثاق ملكي ولا قانون
فتح تقرير ليفيسون، الذي صدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أبواب جهنم على الصحف البريطانية، بعدما اتهمها بالتفلت من عقال الموضوعية والمصداقية وأخلاقيات مهنة الصحافة، سعيًا وراء السبق الصحافي.
وقدم التقرير توصيات عديدة، يندرج مجملها في سياق استحداث إطار تشريعي، ينظم بموجبه القطاع الاعلامي في بريطانيا، ويجنب البلاد فضائح جديدة، خصوصًا بعدما ثبت أن الصحف البريطانية تكرر نشر قصص عن اختفاء الطفلة مادلين ماكين، التي اختفت في ظروف غامضة في العام 2007، ثبت أنها قصص وتقارير مختلقة.
شكك كاميرون في توصيات تقرير ليفيسون، متخوفًا من أن يؤدي إنشاء هيئة ناظمة لقطاع الاعلام في بريطانيا إلى الحد من حرية التعبير في المملكة، طارحًا اقتراح إصدار ميثاق ملكي بديلًا، في التفاف واضح على توصيات التقرير.
علق والدا ماكين على اقتراح إنشاء هيئة لتنظيم الصحافة البريطانية على أساس ميثاق ملكي، لا تصل سلطته إلى قوة القانون، بالقول إنه مجرد حل وسط، لن يعالج انحراف الصحف، على حد تعبيرهما لصحيفة غارديان.
كما قللا من أهمية اقتراح ليفيسون على أن تقوم الصحافة بتنظيم عملها ذاتيًا، quot;لأن الصحافة البريطانية لا تستحق هذه الفرصةquot;، كما قال والد الطفلة المخطوفة لغارديان، متهمًا ليفيسون بالتهاون مع الصحافة التي لا تستحق هذا السخاء، ومتمنيًا أن يتعكز عمل الهيئة الناظمة المقترحة في التقرير على قوة القانون، ومؤكدًا لهيئة الاذاعة البريطانية أن نشر القصص المختلقة عن ابنته المفقودة يهدد سلامتها.
الأكثر تشددًا في العالم
يعارض حزب المحافظين، الذي يقود الائتلاف الحاكم، تقييد عمل الصحافة عبر نص قانوني. ويأتي موقف حزب الليبراليين الديمقراطيين مشابهًا في رفض توصيات ليفيسون، لكنه متحفظ على اقتراح كاميرون إقرار ميثاق ملكي لتنظيم الممارسة الصحافية ذاتيًا، علمًا أن المواثيق الملكية في بريطانيا هي وثائق رسمية، يستعان بها في إقرار شروط إنشاء مؤسسات كبرى في البلاد، كهيئة الاذاعة البريطانية على سبيل المثال، ولا يمكن تعديل بنودها إلا بموافقة الحكومة مجتمعة وغالبية أعضاء مجلس العموم.
لكن الخميس الماضي، وبعد مفاوضات بين الأحزاب الثلاثة، المحافظين والليبراليين الديمقراطيين والعمال، حول الاتفاق على صيغة توافقية على شكل الهيئة الناظمة لقطاع الاعلام البريطاني، خرج كاميرون ليعلن فشل المفاوضات، مشيرًا إلى أنه عازم على إعلان مخطط متكامل لبلورة ميثاق ملكي ينص على تشديد مبادئ تنظيم قطاع الصحافة، ومؤكدًا أن الميثاق سيكون أكثر أنظمة التنظيم تشددًا في العالم، ينص على فرض غرامات تصل إلى مليون جنيه استرليني.
ونقلت هيئة الاذاعة البريطانية عن كاميرون قوله إن الطريق الذي رسمه في هذه المسألة هو الأسرع لبلوغ مرام ليفيسون في إنشاء كيان خاص ينظم قطاع الصحافة في بريطانيا. واضاف أنه عازم على طرح مشروعه أمام مجلس العموم يوم الاثنين المقبل للتصويت عليه، داعيًا الحزبين الآخرين إلى التصويت إيجابًا.
تفرّد وخطأ تاريخي
وفي سياق التعليق على إعلان كاميرون، قال نيك كليغ، نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين المشارك في الائتلاف الحاكم، في حديث صحافي إنه يشعر بالإحباط من قرار كاميرون التفرد برأيه٬ quot;خصوصًا أن المفاوضات بين الأحزاب الثلاثة شهدت تقدمًا حقيقيًا، وكانت تسير في اتجاه التوافق الفعلي حول اقتراح قانون لتنظيم قطاع الصحافةquot;.
واتهم كليغ رئيس الحكومة بأنه في لحظة ما قرر أن يتجاهل كل المقاربات التوافقية، وطالبه أن يعود إلى طاولة المفاوضات، quot;لأنه من الضروري جدًا ألا تخضع مسألة تنظيم قطاع الصحافة لحسابات سياسية ضيقةquot;.
من جانبه، كان حزب العمال المعارض من أشرس المحاربين لتنفيذ وصايا ليفيسون بحذافيرها، لكنه يبدي اليوم مرونة واضحة، ويتجه إلى التخفيف من حدة مطالبه.
ففي تصريح لهيئة الاذاعة البريطانية، وصفت هارييت هارمان٬ نائبة زعيم حزب العمال٬ مشروع حزب المحافظين بأنه يفتح بابًا أمام المساعي الرامية للتوصل إلى توافق ما في قضية تنظيم قطاع الصحافة، بعدما كان حزبها وصف اقتراح كاميرون بأنه quot;خطأ تاريخيquot;.
وقالت: quot;حزب العمال منفتح على تقبل كل مقترح يساهم في تنفيذ توصيات تقرير لجنة ليفيسون٬ وحتى الآليات الأخرى غير المرتبطة بالتنظيم القانونيquot;.
ضابط دستوري
حظي اقتراح الميثاق الملكي الذي قدمه كاميرون بقبول لدى بعض القائمين على كبرى الصحف اللندنية. فقد أكد هؤلاء في بيان مشترك أصدروه الخميس أنهم يشاطرون كاميرون إحساسه بخيبة الأمل حيال الطريقة التي تمت فيها المفاوضات بخصوص تنظيم قطاع الصحافة.
وقالوا في بيانهم إن من حق رئيس الوزراء رفض مسألة التنظيم القانوني للصحافة البريطانية٬ التي بقيت بعيدة عن أي مراقبة سياسية منذ 300 عام. كما شددوا على أن تنظيم القطاع الاعلامي بنص قانوني أمر يستحيل تطبيقه في الواقع.
إلى ذلك، تباينت ردود أفعال الصحف نفسها على المقترح الحكومي. فقد أكد صحيفة إندبندنت اللندنية دعمها لكاميرون في مقترحه، الذي وصفته بأنه محاولة جادة للتوصل إلى تسوية عادلة بين المطالبين بتنظيم قانوني للقطاع الاعلامي وبين من يفضلون استمرار الوضع على ما هو عليه الآن، بينما دقت صحيفة غارديان ناقوس الخطر، واصفةً الاقتراح بالخطير.
وقالت غارديان إن الميثاق الملكي أسوأ من أي نص قانوني، لأنه سيرقى إلى رتبة أعلى يومًا بعد يوم، ليصبح الضابط الدستوري للصحافة، عبر باب خلفي لقصر باكينغهام، بدلًا من الباب المفتوح لوست مينيستر، خصوصًا أن الميثاق الملكي لا يمكن تعديله إلا بموافقة أغلبية برلمانية كبيرة.
التعليقات