يقف العالم متفرجًا على المأساة السورية، لأنه لا يعرف ماذا يفعل أولًا، ولأن المصالح الاقليمية والدولية تتقاطع في هذا البلد، بشكل يؤسس لسلسلة من الحروب القادمة، قد تكون اكثر دموية واتساعًا من حروب القرن العشرين.
لندن: كلما تندلع حرب يقطع العالم عهدًا على نفسه ألا يسمح بتكرار الكارثة مرة أخرى. هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الإبادة الجماعية في رواندا، وبعد مجزرة البوسنة. وكانت الكارثة تقع مرة أخرى، وأخرى. وبحسب أحدث التقديرات، قتل نحو 70 الف سوري في الحرب الأهلية المستعرة في سوريا، ويحتاج أكثر من 4 ملايين سوري إلى مساعدات انسانية، وتهجر زهاء مليوني سوري، ولجأ 1.5 مليون لاجئ إلى دول الجوار.
وتقول يونيسيف التابعة للأمم المتحدة إن بين المحتاجين والمهجرين 3 ملايين طفل. وبهذه الأرقام، تندرج سوريا في عداد أكبر المآسي الانسانية في العصر الحديث. وإذا لم يوقَف نزيف الدم، فمن المتوقع أن ترتفع هذه الأرقام بوتائر متسارعة، فتصبح سوريا قريبًا صومال البحر المتوسط.
بين العربي والأوروبي
يحدث كل هذا، وما زال العالم ينظر متفرجًا إلى الفاجعة، في حين قبل عشرين عامًا، في العام 1993، كان الجميع يتحدث عن البوسنة. وقبل عشر سنوات، في العام 2003، كان الجميع يتحدث عن العراق.
في هذه الأثناء خرج المجتمع الدولي على شعوب العالم بمبدأ quot;مسؤولية الحمايةquot; المقصود به حماية المدنيين، بعدما حدث في يوغسلافيا السابقة ورواندا. وإذا كان مبدأ مسؤولية الحماية لا يصح على الكارثة الانسانية التي صنعها الانسان نفسه في سوريا. فأين يصح؟
بعد الأنباء المشجعة عن اتفاق صربيا وكوسوفو على تطبيع العلاقات بينهما، بدفع من الاتحاد الاوروبي، يتساءل المرء كم سيكون الوضع مختلفًا بالنسبة لأطفال سوريا ومدنييها، لو كان بلدهم في اوروبا، وكانت صربيا في الشرق الأوسط.
دلالات هذا التساؤل واضحة لا تقبل اللبس. فهي تشير إلى أن حياة العربي لا تساوي في قيمتها حياة الاوروبي ناهيكم عن حياة الأفريقي، كما تلاحظ صحيفة غارديان. وسواء أكان هناك شكل من اشكال العنصرية الواعية أو اللاواعية، فإن الاختلاف واضح بين الوضع في سوريا وحقيقة موت اوروبيين في يوغسلافيا ووجود جنود تابعين لدول غربية عديدة في العراق، ومن هنا حجم الاهتمام الأكبر في الحالتين بالمقارنة مع الحالة السورية، وفق غارديان.
ما العمل؟
لعل التفسير الأهون لتباين الاهتمام بين صربيا وسوريا أن اوروبا بعد أن أقحمت العالم في حربين عالميتين صارت تقدم نفسها قارة للسلام. وبالتالي، فإن الحرب ومحاولة ارتكاب إبادة جماعية على تربتها تطعنان في ذلك.
وسوريا بلد بعيد لا يعرف الاوروبيون عنه شيئًا. ورجال اوروبا ونساؤها لا يموتون هناك باستثناء بعض الصحافيين الشجعان، كما أوردت التقارير قلة الجهاديين والمغامرين الاوروبيين. هناك سبب آخر لغياب السجال والاهتمام الشعبي اللذين شهدتهما اوروبا حول البونسة والعراق، وهو أن لا احد يعرف ما العمل بشأن سوريا.
ففي يوغسلافيا السابقة، تدخلت اوروبا لتغيير ميزان القوى بين الكروات والصرب والبوسنيين، ثم جمعت الفرقاء إلى طاولة المفاوضات للاتفاق على تسوية اساسها القبول بتقسيم يوغسلافيا.
وفي كوسوفو، استخدمت اوروبا القوة المباشرة في الجو وعلى الأرض، لتحقيق سلام قائم على تقسيم قومي. وبعد 13 عامًا، يسهم التقارب الذي ما زال جنينيًا بين صربيا وكوسوفو في إسباغ طابع متحضر على الانقسام بدفع من إغراء العضوية في الاتحاد الاوروبي.
وتستهوي البعض، لا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فكرة انهاء الحظر الذي فرضه الاتحاد الاوروبي على ارسال السلاح إلى سوريا في منتصف ايار (مايو) المقبل، الذي سيغيّر ميزان القوى لصالح المعارضة، أو المعارضة التي يريدها الغرب وليس فصائل المعارضة المتطرفة التي ترتبط بتنظيم القاعدة. وحينذئذ يتوسط الغرب للانتقال إلى سوريا ما بعد الأسد عن طريق المفاوضات.
احتمالات ضئيلة
لكن جوليان بارنز دايسي، الباحث المختص بشؤون الشرق الأوسط في المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية، يستبعد حصول ذلك. فالأسد لن يستمر في القتال بشراسة فحسب، ولن يتمتع بتأييد شرائح من الأقليات العلوية والمسيحية والشيعية والدرزية ضد معارضة غالبيتها الساحقة من السنة فحسب، بل الأهم أنه سيحظى بدعم أكثر من قوى خارجية في مقدمتها إيران، التي ترى أن مستقبلها نفسه يتأرجح بين كفتي الميزان السوري.
والأرجح أن النصر في الحرب سيكون حليف المعارضة إذا ساندتها حملة جوية شاملة وقوات أجنبية على الأرض. لكن دايسي يستبعد أن يكون الغرب مستعدًا لمثل هذا التدخل في نسخة جديدة من التدخل الغربي في العراق.
ويطرح دايسي بديلًا راديكاليًا آخر، هو الحد من التصعيد عن طريق المفاوضات بين سائر القوى الدولية ذات العلاقة، واتفاقها على وقف تدفق السلاح، بدلًا من زيادته، ودفع جميع الفرقاء على الأرض إلى التفاوض بشأن حل توافقي، تبدو احتمالات نجاحه ضئيلة ضآلة احتمالات التدخل الغربي المباشر، كما يرى دايسي.
قرون دموية
في هذه الأثناء، قد تكون سوريا نذيرًا بما هو أعظم. ففي يوغسلافيا السابقة كان هناك وجود ساحق لمجموعة من القوى ذات التفكير المتشابه، هي اوروبا والغرب عمومًا. وكانت روسيا قوة مضادة، وإلى حد أقل الصين ايضًا، ولكنهما لم تشعرا بأن لديهما مصالح حيوية مهدَّدة في صربيا، في حين أن قوى دولية متعددة تشعر بذلك في سوريا. ومع ذلك، احتاج السلام الهش في يوغسلافيا السابقة إلى عشر سنوات، وكلف 100 الف قتيل وملايين المهجرين.
وفي عالم بلا اقطاب، تتنافس في حلبته قوى متعددة، دولية واقليمية لها مصالح في بلد ممزق مثل سوريا، يغدو من الصعب وقف مثل هذه الحروب الأهلية التي تُخاض بالنيابة.
وكان القرن العشرون الذي بدأ بحروب البلقان الممهدة إلى الحرب العالمية الأولى، أشد القرون دموية في تاريخ الانسانية. وما لم يتوصل العالم إلى طرق جديدة لحل النزاعات، ناجعة بما فيه الكفاية للجم هذه الفوضى العالمية الجديدة، فإن القرن الحادي والعشرين قد يكون حتى أشد دموية.
التعليقات