تستوحي حكومة نوري المالكي أساليب نظام صدام حسين القمعية، متذرعة بإجراءات أمنية قاسية لمنع التفجيرات، من دون أن تجدي هذه الإجراءات، إلا في استعداء السنة العراقيين أكثر فأكثر.

لعل التذكير بانتهاكات نظام صدام وسنوات العنف الطائفي التي اعقبت الاحتلال الاميركي في العام 2003 محاولة تستحق الثناء لمساعدة العراقيين على تجاوز هذا الماضي، وفتح صفحة جديدة من التعايش، لو لم تُرتكب انتهاكات واعتداءات مماثلة في انحاء البلاد اليوم، كما تؤكد منظمات حقوقية. وإزاء تردي الوضع الأمني، يقول عراقيون إن كل تفجير وكل اعتداء ترتكبه ميليشيا محلية يؤكد أن قوى الأمن العراقية المدربة على أيدي الاميركيين عديمة الفاعلية، وأحيانًا هي نفسها مسؤولة عن الكثير من الانتهاكات والاعتداءات على المواطنين. أمل الاستقرار في ظل حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي تبدد، وحل محله خوف من أن تستوحي حكومته الأساليب القمعية ذاتها التي كان نصيب طائفته الشيعية كبيرًا منها في زمن صدام حسين. ويلاحظ مراقبون أن قوى الأمن التي ترتبط برئيس الوزراء مباشرة، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، ردت على التفجيرات والهجمات المتزايدة للجماعات الجهادية بأشد الحملات الأمنية ضراوة حتى الآن، بما في ذلك اعتقالات عشوائية بين السنة واستخدام التعذيب لانتزاع الاعترافات ونظام المخبر السري سيئ الصيت، لإدانة المتهمين ومطالبة أهالي المعتقلين برشوة في أحيان كثيرة، كما نسبت صحيفة نيويورك تايمز لناشطي منظمات حقوقية.
لم يحركوا ساكنًا
بدأ المواطنون العراقيون، مدفوعين بمشاعر الإحباط من عجز قوى الأمن عن حمايتهم، يأخذون الأمور بأيديهم في تطور ينذر باضافة عنصر آخر من عناصر عدم الاستقرار في العراق. وإذ عاشت بغداد الاسبوع الماضي يومًا دمويًا آخر، هاجم سكان غاضبون في منطقة ذات أغلبية شيعية رجلًا ارتابوا بأنه ركن سيارة مفخخة في حيهم، وانهالوا عليه ضربًا وطعنًا حتى الموت، ثم علقوا جثته بعمود كهرباء واشعلوا النار فيها. وأظهر شريط فيديو عن الحادث نُشر على الانترنت رجال الأمن واقفين يتفرجون من دون أن يحركوا ساكنًا.
ومن المظاهر الخطيرة الأخرى للوضع في العراق توجه اعداد متزايدة من العراقيين، سنة وشيعة، للقتال مع أطراف متناحرة في الحرب الأهلية السورية، ما أثار مخاوف كبيرة في اوساط شعبية وسياسية واسعة من أن الولاء الطائفي يعلو اليوم على الهوية الوطنية. ويقول كثير من العراقيين إن شبح العنف أقرب اليوم من أي وقت مضى مع تلاشي فكرة المجتمع الواحد. ويلاحظ محللون أن الحكومة عمدت في غمرة هذا الاحتقان إلى توظيف التاريخ بما يخدم مصلحتها. ففي وقت سابق من هذا العام، بعد أن اقتحمت قوى الأمن ساحة الاعتصام في قضاء الحوجية شمالي بغداد واسفر اقتحامها عن مقتل عشرات المحتجين، عرض التلفزيون الرسمي افلامًا وثائقية عن جرائم البعث الصدامي أثارت انتقادات اتهمت الحكومة بمحاولة صرف الانتباه عن اساليبها القمعية ذاتها.
لغة صدام
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن بغداد حميد فاضل، استاذ العلوم السياسية، قوله إن إحالات الحكومة المستمرة إلى أهوال العيش في عهد صدام تأتي في اطار استراتيجية دعائية للتستر على اخفاقات المالكي في توفير خدمات اساسية مثل الكهرباء والأمن. أضاف: quot;تحاول الحكومة أن تبين أن البديل الآخر للحكومة الديمقراطية هو العودة إلى البعثيين وتعذيب المدنيينquot;. ولكن منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الانسان، وجهات أخرى بينها وزارة الخارجية الاميركية، دأبت على توثيق اعمال تعذيب وانتهاكات لحقوق الانسان في ظل حكومة المالكي. كما أن اللغة التي يستخدمها كثير من السنة في حديثهم عن العمليات الأمنية الأخيرة تشبه لغة الحكومة في الحديث عن نظام البعث. وعلى سبيل المثال، وصف عضو مجلس النواب وليد المحمدي ممارسات الحكومة بأنها تكرس الطائفية والهمجية.
وأشار معهد دراسة الحرب في تقرير أخير إلى أن استعداء الطائفة السنية العراقية تزايد أكثر بالاعتقالات العشوائية بين الرجال السنة. واضاف التقرير: quot;تنظيم القاعدة في العراق رغم هذه الحملة استمر في استعراض قدرته على العمل وتنفيذ هجمات في بغداد والمحافظات المحيطةquot;. وحذرت مجموعة الأزمات الدولية من العودة إلى العنف الطائفي وقالت إن اعتماد استراتيجية من الاجراءات الأمنية القاسية ليس من شأنها إلا أن تزيد الوضع تفاقمًا.
عودة ضباط النظام السابق
يتبدى هذا الاحتمال في مظاهر الغضب التي تعبر عنها شخصيات سنية مرموقة. واصدر رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي بيانًا ندد فيه بحملات الحكومة، قائلًا: quot;انها اعمال استفزازية تُرتكب يوميًا ضد سكان هذه المناطقquot;. واضاف أن تطبيق القانون يجب ألا يكون على حساب ارواح العراقيين أو كرامتهم أو ممتلكاتهم. المالكي، من جهته، خلع على نفسه لقب الفارس الذي يقارع الارهابيين، متعهدًا: quot;لن نتساهل في مواجهة الارهابيينquot;. واعلن أن السلطات القت القبض أخيرًا على 800 مشتبه بضلوعهم في اعمال ارهابية وقتلت عشرات آخرين في اشتباكات مع قوى الأمن، التي دمرت بنيتهم التحتية لتصنيع ادوات القتل والتفجير وصادرت كميات كبيرة من الأسلحة والعبوات الناسفة. لكن سنة كثيرين يقولون إنهم يشعرون كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ونقلت نيويورك تايمز عن المواطن السني حاكم الأعظمي (54 عامًا) قوله: quot;انهم يقبضون على السنة، وبذلك يزيدون اعداءهم السياسيينquot;. واضاف أن الحكومة تضغط على السنة لتقديم معلومات عن الارهابيين، quot;ثم تكون هناك تفجيرات ويُتهم السنة بالارهاب ويبدأون باعتقالهمquot;. ولكن التفجيرات اصبحت اشد فتكًا وأكثر عددًا رغم الاجراءات الأمنية القاسية. ولا يثق العراقيون، بمن فيهم الشيعة، في قدرة قوى الأمن على حمايتهم.
وإذ يجد المالكي نفسه محاصرًا، فإنه أخذ يبحث عمن ينجده. وهو في بحثه هذا يستعير صفحة من كتاب النظام السابق، إذ نشرت وسائل الاعلام المحلية دعوة ضباط القوات الخاصة في النظام السابق برتبة رائد فما دون إلى العودة للخدمة. وطلبت وزارة الدفاع من هؤلاء الضباط مراجعة موقعها الالكتروني لملء الاستمارة الخاصة بالعودة.