يقول محللون إن لا وجه شبه بين سوريا من جهة، والعراق وأفغانستان من جهة أخرى، لكن أوجه الشبه كثيرة بين سوريا والبوسنة، حيث القوة العسكرية الخارجية ضرورية لفرض واقع يدفع بالأطراف إلى التفاوض حول تسوية سياسية ما.


عشرات آلاف القتلى في بلد ليس بعيدًا عن جنوب شرق أوروبا، يشهد نزاعًا مسلحًا شديد التعقيد، تتقاطع فيه مصالح متضاربة، ورئيس أميركي لا يريد تدخلات عسكرية بعد أن ارتكزت حملته الانتخابية كلها على قضايا داخلية، وبعد تواصل مع العالم العربي باء بالفشل، إلى جانب حاكم مستبد ليست لديه نية في التفاوض بسرعة وجدية.

وعلى الجانب الآخر، دبلوماسية اوروبية متخلفة حتى عن الأهداف التي حددتها لنفسها، ومبادرات سياسية تفشل قبل أن تقلع، ومناقشات طويلة حول جدوى حظر السلاح ومخاطره. ويتحدث وزير الخارجية الاميركي عن مشكلة مستوردة من جهنم، قائلًا إن الكراهية عميقة إلى حد لا يُصدق، لكن الولايات المتحدة تفعل كل ما بوسعها لمعالجة المشكلة.

قد يبدو هذا استعراضًا لملامح الأزمة السورية في صيف 2013، لكنه تلخيص دقيق لحرب البوسنة حتى صيف 1995. ومع ذلك، يصر غالبية المراقبين على النظر إلى الحرب المستعرة في سوريا بمنظار التدخلات الخارجية في أفغانستان والعراق، التي كانت تدخلات ناجمة عن غطرسة غربية من دون أن تحقق النتائج المنشودة.

درس لدعاة التدخل

بكلمات أخرى، تتمثل التركة الثقيلة للعقد الماضي في أن أفغانستان والعراق هما الدرسان اللذان يجب أن يتعظ بهما دعاة التدخل. وذهب وزير الدفاع الاميركي السابق روبرت غيتس إلى حد التشكيك في القوى العقلية لكل من يفكر في ارسال قوات اميركية إلى المنطقة. ويبدو أن فشل الغرب سياسيًا في أفغانستان والعراق أنساه الدروس التي تعلمها من حرب البلقان.

فهذا النزاع علَّم الغرب بأنه قد يكون ضروريًا في ظروف معينة التفكير في استخدام وسائل عسكرية لفرض حل دبلوماسي، وصولًا إلى السلام. ويُلاحظ أن القول المأثور إن السياسيين والعسكريين يميلون إلى خوض الحرب الأخيرة مرة ثانية يصح في هذه الحالة ايضًا. فالانطباعات التي يخرج بها المرء من الخبرات الأخيرة تكون أجدد الانطباعات، لكنها يمكن أن تعني النظر إلى الأزمة الحالية بعدسة مشوهة.

فالوضع في سوريا وتطور أزمتها يذكران من نواحٍ عديدة بالبوسنة وليس بالعراق أو أفغانستان. وما زالت البوسنة تقدم دروسًا صالحة. ولا شك في أن المسؤولين وصانعي السياسة يدركون أن السياسة التي ينتهجها الغرب والمجتمع الدولي حاليًا إزاء النزاع السوري سياسة قاصرة وعاجزة تمامًا.

فالمناشدات والعقوبات واجراءات الحظر وبعض أشكال الدعم للمعارضة والمبادرات الدبلوماسية ومحاولات التوسط التي قامت بها قوى خارجية باءت بالفشل في سوريا، مثلما فشلت في البوسنة قبل العام 1995.

قوة تفرض سلمًا

في مقدمة أوجه الشبه بين النزاعين البوسني والسوري هو العجز في البداية عن جمع الفرقاء إلى طاولة المفاوضات لتحقيق حل دبلوماسي. وكما في حالة سلوبودان ميلوشيفيتش في التسعينيات، رئيس النظام السوري بشار الأسد لا يجد نفسه مضطرًا في الوقت الحاضر للتفاوض بجدية.

وفي البوسنة ايضًا أُعدت مشاريع وخطط سلام، مثل خطة فانس أون في المراحل الأولى لكنها لم تتمخض عن شيء بسبب غياب الارادة السياسية لدى الغرب لتنفيذها.

ولم تكن اتفاقية دايتون التي أنهت حرب البوسنة في العام 1995 ممكنة في نهاية المطاف، إلا بعد نشوء حقائق جديدة فرضت على ميلوشيفيتش وصرب البوسنة أن يكتشفوا فجأة أن في مصلحتهم التوصل إلى حل عن طريق المفاوضات.

وكانت هذه الحقائق هي المكاسب التي حققها الطرف الكرواتي على الأرض، وعملية حلف الأطلسي التي أكدت أن الغرب جاد هذه المرة. بعبارة أخرى، النتيجة التي تكللت باتفاقية دايتون على علاتها، وتمهيد الطريق أمام البوسنة إلى مستقبل بلا حرب، لم تكن ممكنة إلا بعد التهديد بالقوة واستخدامها المحدود. وهذه هي القضية الحاسمة في سوريا اليوم ايضًا، إذ عاد الأسد يتحرك من موقع قوة لن يقدم معه التنازلات المطلوبة بالمرة.

وطالما بقي الأسد مقتنعًا بأن موقفه يمكن أن يستمر في التحسن، وأنه يمكن حتى أن يحسم الحرب لصالحه، فهو سيواصل القتال والقتل، وعلى المجتمع الدولي أن يتحرك لتغيير حسابات الأسد إذا كان يريد الحل السياسي.

سلاح واتصال

ثانيًا، امدادات السلاح كشفت في حالة البوسنة وتكشف اليوم في سوريا أن الأفضلية للنظام. ففي البلقان، استنكر البوسنيون الحظر المفروض على تسليحهم، فاستغلته بلغراد وصرب البوسنة ابشع استغلال. وعلى الغرار نفسه، تحاول المعارضة السورية الآن مواجهة التفوق العسكري لقوات الأسد الذي تسلحه موسكو وطهران ويسانده حزب الله بقوات كبيرة.

وقد لا يكون من المبالغة القول إن الطرف الذي بالكاد تلقى دعمًا عسكريًا يُعتد به هو الفصائل المعتدلة في المعارضة السورية، كما تلاحظ مجلة شبيغل اونلاين، محذرة من أن اضمحلال الفصائل المعتدلة ليس مستبعدًا، وهنا تكمن المأساة الحقيقية لفشل الغرب، على حد تعبيرها. ثالثًا، حتى في البوسنة لم يكن الحل ممكنًا إلا على اساس تفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا.

ورغم تضارب مواقف الدولتين ومصالحهما في البلقان، تعين عليهما إيجاد ارضية مشتركة لتعبيد الطريق إلى دايتون. ومن هنا تأتي أهمية المبادرة الاميركية الروسية لعقد مؤتمر جنيف-2 بعد تعديل ميزان القوى على الأرض. وهنا قد تكون التنازلات المؤلمة ضرورية لضمان مصالح المكونات المذهبية المختلفة والاتفاق على حكومة انتقالية، وربما شكل من اشكال الوجود الدولي بعد انتهاء الحرب.

وفي حرب البلقان ايضًا لم تكن المداولات في اطار مجموعة الاتصال سهلة، لكنها نجحت بسبب جلوس جميع الفرقاء بمن فيهم موسكو إلى طاولة المفاوضات. واليوم لدينا مجموعة اصدقاء سوريا التي، على اهميتها لتأكيد شرعية المعارضة دوليًا، لا تستطيع أن تفعل الكثير لانهاء النزاع. وسيكون من الأجدى تشكيل جماعة اتصال تحت اشراف الأمم المتحدة تضم تركيا وايران وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي كأعضاء مؤسسين، وربما تُستكمَل بعضوية السعودية وقطر ومشاركة الجامعة العربية، كما تقترح شبيغل اونلاين.

اعتادوا المجازر

رابعًا، كان الوضع في البوسنة، مثل الوضع في سوريا اليوم، يُقيَّم على اساس أن الامتناع عن التحرك أقل كلفة من التدخل. ولم تتغيّر هذه الحسابات في البوسنة إلا بعد مجزرة سربرنيتسة ومقتل زهاء 8000 مسلم في العام 1995.

ولعل التدخل في سوريا لم يعد مبررًا أو مجديًا أو ممكنًا بوسائل معقولة في هذه المرحلة، ومن المعيب والمحزن أن يبدو الرأي العام الغربي وكأنه اعتاد على سماع أنباء المجازر في سوريا.

ومن دروس البوسنة الأخرى أنه كلما طال النزاع زادت صعوبة إلزام الفرقاء في نهاية الحرب بنظام متفق عليه وخطوات تصالحية عملية. وفي هذا الشأن، فإن الدعوات إلى ترك سوريا تنزف حتى لا يعود لديها دم تنزفه ليست دعوات لا مسؤولة اخلاقيًا فحسب، بل مفلسة سياسيًا.

ومن المؤكد أن النقاش حول ما إذا كان التدخل المحدود بفرض منطقة حظر جوي أو ضربات محدودة كما في البوسنة في العام 1995 من شأنه أن يسهم في ايجاد حل في سوريا عن طريق المفاوضات، هو واحدة من أصعب القضايا التي تواجه السياسة الدولية في الوقت الحاضر على المستوى الأمني.

إفلاس أخلاقي غربي

غير أن المؤكد أن عدم التحرك قرار لا يعفي اصحابه من المسؤولية عمّا سيحدث لاحقًا من تداعيات كارثية قد تترتب عليه. ويلفت مراقبون إلى أنه بسبب عدم تحرك الغرب تحديدًا نرى الآن بلدًا يتفكك واسلحة كيميائية تُستخدم في قلب أشد مناطق العالم تفجرًا، وسوريا تتحول بؤرة للجهاديين من سائر انحاء العالم، على حد وصف مجلة شبيغل اونلاين.

إن أهمية الحرب بالوكالة، وما فيها من مكونات قوة دينية وسياسية تتعدى حدود سوريا، يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل جميع الدول المجاورة، وعلى حل النزاع مع ايران بسبب برنامجها النووي، والصراع على النفوذ وزعامة الشرق الأوسط. في هذه الأثناء يستمر عدد الضحايا في التزايد.

ويبدو أن الغرب ينظر إلى سوريا كما نظر إلى البوسنة قبل 20 عامًا، على أنها مشكلة مستوردة من جهنم، يجب أن يبتعد عنها. وإذا كان هذا هو الدرس الأخير الذي سيخرج به العالم من الأزمة السورية فإنه سيكون خطوة إلى الوراء في قدرة المجتمع الدولي على تأمين السلام من خلال الأمم المتحدة. ولكنه سيعني أكثر بالنسبة للغرب. فهو سيكون اعلان افلاس أخلاقي وسياسي على السواء.