أصبح مؤكدا أن الحكومة المصرية تقوم ببناء جدار فولاذي تحت الأرض بعمق طويل على الحدود بين قطاع غزة وسيناء المصرية، التي تمتد حوالي تسعة كيلومترات، وذلك بهدف إعاقة بناء أنفاق سرية عبر الحدود تستعمل للتهريب بين القطاع ومدينة العريش المصرية، خاصة بعد انقلاب حركة حماس العسكري الذي أدى إلى سيطرتها الكاملة على القطاع في يونيو 2007، وطردها كافة كوادر وقيادات حركة فتح والسلطة الفلسطينية، ومنذ ذلك التاريخ يعيش حوالي مليون ونصف مواطن فلسطيني بنسبة عالية على ما يتم تهريبه عبر هذه الأنفاق، التي أقل ما يهرب عبرها هو السلاح لأن حماس نفسها رغم صراخ المقاومة الخطابي لم تطلق رصاصة على الاحتلال منذ انتهاء اجتياح يناير 2009، بالعكس فهي تعتقل كل من يحاول إطلاق الرصاص أو الصواريخ الكرتونية، بمعنى أن السلاح سلعة غير مطلوبة في السوق اليومي ليتم تهريبها عبر الأنفاق.
وقد أوجدت هذه الأنفاق حسب كتابات ورصد بعض الكتاب الفلسطينيين المقيمين في غزة طبقة من الأثرياء التي يمكن تسميتها quot;أثرياء الأنفاقquot;التي يتم بناؤها بعلم سلطة حركة حماس مقابل مبالغ باهظة للحركة رسوما لكل نفق، مع العلم أن غالبية سكان القطاع فعليا تحت خط الفقر ولا يملكون ما يشترونه من المواد التي يتم تهريبها. وكم هو مثير للفزع والخوف أن تشاهد وتتأكد من معلومة وليس نكتة وهي أنه في الفترة الأخيرة بدأ تهريب الخيول والحمير عبر الأنفاق لاستعمالها كوسائل نقل ومواصلات لعدم توفر البنزين والمازوت لاستعمال السيارات. ورغم كل هذا الوضع المأساوي إلا أن رصدا لأهم موضوعات العام 2009 وبدايات 2010 تثبت أن موضوع الجدار الفولاذي هذا قد طغى على الاهتمام بالذكرى الأولى للاجتياح الإسرائيلي للقطاع، وذلك ليس بسبب خطورة الجدار على حياة السكان في القطاع فقط، ولكن بسبب تداخل الشريعة والسياسة في الموضوع. وهذا وحده يثبت عشوائية الحياة التي يعيشها العرب بسبب تدخل رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة من quot;إرضاع الكبيرquot; إلى quot;الجدار الفولاذيquot;، ولم يبق إلا فتاويهم بخصوص لون الملابس المحرّمة للرجال والنساء، ولم لا فربما يكون اللون الأحمر مثلا غير شرعي فعليهم دراسة الأمر ونصحنا.

الجدار..شرعي أم غير شرعي؟
هذا الموضوع السياسي تسابق فيه المفتون باسم الشريعة الإسلامية بين محلل ومحرم، وبالتالي فلا يعرف المواطن المسلم شيخ أية طريقة يتبع، الذي أفتى بتحليل الجدار شرعيا وتأييد بنائه لمطابقته لتعاليم الإسلام، أم الذي أفتى بمخالفة الجدار للشريعة الإسلامية وتكفير القائمين على بنائه والمحللين لذلك أيضا؟. من نتبع منكم خاصة أن كل طرف يورد عشرات الآيات القرأنية والأحاديث والمواقف النبوية التي تدعم وجهة نظره.

فالأزهر يؤيد بناء الجدار،
إذ أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي حفظه ورعاه الله، بيانا رسميا بإجماع أعضائه أيّد فيه قيام الحكومة المصرية ببناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية مع قطاع غزة، وقد جاء في البيان حرفيا: quot; إن من الحقوق الشرعية لمصر أن تضع الحواجز التي تمنع أضرار الأنفاق التي أقيمت تحت أرض رفح المصرية، حيث يتم استخدامها في تهريب المخدرات وغيرها مما يهدد ويزعزع أمن مصر ومصالحها. إن ما تقوم به مصر تأمر به الشريعة الإسلامية ويتفق مع أحكامها التي تؤيد حق كل دولة في حماية حدودها ومصالحها. إن الذين يعارضون بناء هذا الجدار يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية quot;.


إذن فالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي،
يخالف الشريعة الإسلامية وأوامرها لأنّ فضيلته أصدر بيانا يوم السابع والعشرين من ديسمبر لعام 2009، ورد فيه:quot; إنّ بناء الجدار الفولاذي الذي تقيمه مصر هذه الأيام على الحدود بينها وبين غزة عمل محرم شرعا، لأن المقصود به سدّ كل المنافذ على غزة للزيادة في حصارهم وتجويعهم وإذلالهم والضغط عليهم، كي يركعوا ويستسلموا لما تريده إسرائيلquot;. طبعا ليس الشيخ القرضاوي وحده فهناك العديد من الشيوخ والمفتين ربما أكثر من عدد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، أيدوا فتوى القرضاوي بتحريم الجدار ومخالفة القائمين عليه والمؤيدين له للشريعة الإسلامية والسنّة النبوية، وهم بذلك خارجون عن تعاليم الإسلام ضالون عن الطريق النبوي الصحيح.


أما حزب التحرير في فلسطين،
الموكل بإقامة الخلافة الإسلامية في عموم الدول الإسلامية أولا، ثم العالم أجمع وكما يعد فهي قاب قوسين أو أدنى، وبعد قيامها سيتولى خليفة المسلمين عندئذ تحرير فلسطين كاملة ثم تحرير العالم أجمع من الكفار والنصارى، فقد أعلن فضيلة السيد الشيخ الأستاذ حسن المدهون، من المكتب الإعلامي للحزب:quot; إن العلماء الذين أصدروا هذه الفتوى الخبيثة فاقدون للأهلية الشرعية كونهم يعترفون بالحدود التي أقامها الكافر المستعمر، بل ويجعلونها فوق حدود الله التي دعت إلى نصرة المسلمين quot;. وأضاف فضيلته:quot; إن الأمة تزخر بالعلماء المخلصين الذين يرفضون هذه الفتوى وأمثالها، ويتطلعون إلى اليوم الذي يكونون فيه جزءا من جيوش المسلمين الزاحفة لتحرير فلسطين وكل البلاد الإسلامية المحتلةquot;.


وفي فلسطين ذاتها منْ حلّل بناء الجدار،
فقد أفتى فضيلة الشيخ الدكتور محمود الهباش وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني ( الحمساوي سابقا، العبساوي حاليا) quot; أنّ من حق مصر أن تتخذ من الإجراءات ما تراه مناسبا لضمان أمنها وحماية حدودها وتنفيذ القانون في أراضيها...إنّ مجمع البحوث في الأزهر الشريف أصدر بيانا واضحا وهو أعلى مرجعية جماعية لأهل السنّة في العالم وليس مصر فقط quot;. بينما فضيلة الشيخ الدكتور محمد أسعد بيوض التميمي، مدير مركز دراسات وأبحاث الحقيقة الإسلامية، ونجل مفتي فلسطين السابق الإمام المجاهد أسعد بيوض التميمي، فقد نشر دراسة طويلة مدعمة بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تحت عنوان quot; الكفر البواح في الفتوى الشيطانية بشرعية الجدار الفولاذي الفرعوني quot;، وصف فيها الشيوخ الذين أيدوا شرعية بناء الجدار بأنهم quot; علماء السلطان الجائر الموالي للكفار، ويا أتباع الشياطين يا أيها المجرمون، أيها الكافرون quot;. و كنتيجة فإن الطرفين كافران حسب وجهة نظر كل طرف في ألآخر.


والبابا شنودة الثالث أيضا،
بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، تدخل أيضل في الموضوع وأفتى في مقابلة تلفزيونية بقوله:quot; أنا مع حماية البلاد وحدودها بأية طريقة تراها الدولة، ومن حقنا أن ندافع عن بلادنا وحدودها ولا تعتبر هذه خيانة كما يردد البعض، مع التذكير أن البابا ما زال على فتواه التي أعلنها عام 1980 بتحريم ومنع الأقباط المصريين من زيارة القدس طالما هي تحت الاحتلال الإسرائيلي.
إذن ما الحل يا أهل الشريعة والسياسة؟
الحل هو في الوسطية التي يعبر عنها مفتو وشيوخ الدول الاسكيندينافية، كي توفق بين فك الحصار عن قطاه غزة والمحافظة على السيادة والأمن المصري، وهذا هو موضوع المقالة القادمة، فانتظروا يا أهل العلم، وفقنا ووفقكم الله تعالى.
[email protected]