يوجد خلل وتناقض في العقلية العربية عند الحكم على الأعمال والممارسات وتقييمها، فالمنطق والموضوعية يقتضيان أن (نفس الفعل أو العمل) يستحق الحكم والتقييم ذاته بغض النظر عمن ارتكبه، فعمل الخير يستحق الثناء أيا كانت هوية أو قومية أو ديانة فاعله، وعمل الشر يستحق الإدانة أيضا بغض النظر عن هوية أو قومية أو ديانة فاعله. إلا أنه في العقلية والممارسة العربية والإسلامية يتم التغاضي عن هذه البديهيات وتجاوزها رغم تعليمات الدين الإسلامي الصريحة التي تنص على أن (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، سواء صحت نسبته لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما يرى البعض أو لا كما يرى البعض الآخر. أي أنها كقاعدة أخلاقية لا يجوز السكوت عن قول كلمة الحق في وجه أي شخص كان. من أهم المسائل التي يتم فيها تجاوز هذه القاعدة الأخلاقية في التفكير والممارسة العربية والإسلامية:
أولا: تعريف ومفهوم الاحتلال
إن تعريف الاحتلال من المفاهيم المتفق عليها في كافة الثقافات، ويفترض أنه لا يوجد احتلال جميل نصفق له، واحتلال قبيح نقاومه، فالاحتلال واحد لا خلاف على تعريفه ومفهومه، إلا في العقلية العربية التي لا تحتفظ إلا بذكرى احتلال فلسطين من قبل إسرائيل عام 1948، أما احتلال مدينتي سبتة ومليلة من قبل أسبانيا منذ ما يزيد على 500 سنة فلا ذكر لها مطلقا لا في الذاكرة ولا أي منهج دراسي عربي، وكذلك لواء الإسكندرونة المحتل من قبل تركيا عام 1936 فقد أصبح في طي النسيان عربيا، لدرجة أن النظام السوري في زمن الرئيس حافظ الأسد وقّع على ترسيم الحدود الحالية مع تركيا، أي الاعتراف بتركية اللواء بشكل رسمي، أعقبه حذف أي ذكر للواء سوري محتل من كافة المناهج السورية. وكذلك احتلال إقليم الأحواز العربي عام 1925 والجزر الإماراتية الثلاث عام 1971 من النظام الإيراني، أيضا لا يتذكره أحد بل على عكس ذلك هناك كتاب عرب يقولون صراحة بتسمية (الخليج الفارسي) وأن إيران كدولة متحضرة أولى بالجزر الثلاث من البدو الإماراتيين وسواهم من بدو الخليج العربي. و قياسا على هذا الفهم الخاطىء يمكن للبعض أن يستعمل نفس القياس اللا وطني ويقول إن إسرائيل المتقدمة والمتحضرة والديمقراطية أولى بفلسطين من شعبها الذي يتقاتل ويوقع خسائر من بني شعبه لا تقل عن خسائره من الاحتلال. في حين أن المنطق والعرف الدوليين يقولان بأن الاحتلال احتلال بغض النظر عن هوية ونوعية الشعب المحتلة أرضه، وضمن هذه الذاكرة العربية المختلة فقد صفق عرب لاحتلال صدام لدولة الكويت عام 1991، ولعبا بعواطف الجماهير الجاهلة اشترط صدام انسحاب إسرائيل من فلسطين كي ينسحب من الكويت، فهل هناك منطق غوغائي وهمجي أكثر من ذلك؟.
ثانيا: تقييم القتل حسب هوية القاتل
وهذه مسألة بنفس خطورة ما سبق، فأن يقتل المسلم مسلما أو يقتل العربي عربيا، أو يقتل الفلسطيني فلسطينيا، فهذا لا يثير الحمية والعنترية لدي العرب والفلسطينيين والمسلمين، أما أن يقتل عربيا أو فلسطينيا أو مسلما على يد إسرائيلي أو أوربي، فهنا تقوم دنياهم ولا تقعد، رغم أن القتل جريمة بغض النظر عن هوية وديانة القاتل. فمثلا تم تسطير ألاف الصفحات في مقتل المصرية (مروى الشربيني) على يد قاتل ألماني، وتم منحها صفة (الشهيدة). إنها بدون نقاش جريمة قتل يستحق مرتكبها الألماني أشد العقوبات، ولكن ازدواجية المعايير العربية تجعلنا نسأل:
- وماذا عن مئات جرائم القتل شهريا في الدول العربية والإسلامية تحت غطاء كاذب اسمه (غسيل الشرف)، وفي أغلب الأحوال يتم قتل الفتاة على يد أخيها أو واحد من أقاربها، ويعلن ذلك صراحة، وتستقبله نساء الحارة وأهل القتيلة بالزغاريد والتبريكات وتوزيع الحلويات الفاخرة...من يكتب أو يتظاهر ضد ذلك رغم أن الطب الشرعي أثبت أن ما يزيد على 95 في المائة من أولئك القتيلات كن عذراوات، أي أنه لم يكن هناك (شرف رفيع قد لحقه الأذى) (كي تسال على جوانبه الدماء).
- وماذا عن القتل بسبب الأفكار التي انتشرت منذ منتصف القرن الماضي، بحيث أصبحت مصدر هلع وخوف لعموم الكتاب والمفكرين العرب، خاصة بعد أن تم قتل الكاتب المصري فرج فودة في الثامن من يونيو عام 1992، وكان قد استقال من حزب الوفد الجديد لرفضه تحالف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات عام 1984، وحاول بعد ذلك تأسيس حزب جديد باسم (المستقبل)، وكان ينتظر موافقة لجنة شؤون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى المصري، في حين شنّت جبهة علماء الأزهر هجوما عنيفا عليه، مطالبة بعدم الترخيص لحزبه المقترح، وأصدرت الجبهة بيانا في جريدة (النور) يكفر فرج فودة ووجوب قتله، وكان أن قام واحد من الجهلة بتنفيذ طلب القتل هذا، وأقول (واحد من الجهلة)، لأنه في محاكمته كقاتل سئل:
- لماذا اغتلت فرج فودة؟
- لأنه كافر.
- ومن أي من كتبه عرفت أنه كافر؟
- أنا لم أقرأ كتبه.
- كيف؟
- أنا لا أقرأ ولا أكتب.
وأعقب ذلك محاولة قتل الروائي نجيب محفوظ في أكتوبر 1995 قبل أن يتوفى وفاة طبيعية في أغسطس 2006. وكذلك تهديد الدكتور نصر حامد أبو زيد وهروبه من مصر إلى هولندا منذ ما يزيد على عشر سنوات. وتدور الآن معركة حامية في جبهة علماء الأزهر وغيرها ضد منح وزارة الثقافة المصرية جائزة الدولة التقديرية إلى الأستاذ سيد القمني و الدكتور حسن حنفي، ويطالب الشيخ يوسف البدري بسحب الجائزة منهما.
كل هذا القتل المادي والمعنوي
لا يهم العرب والمسلمين ولا يثير حميتهم وضمائرهم، لأنه قتل عربي لعربي أو فلسطيني لفلسطيني، أما قتل مروى الشربيني على يد ألماني والطفل الفلسطيني محمد الدرة على يد الجيش الإسرائيلي، فهذه أعمال قتل استدعت أطنانا من البكائيات و الندب واللطم وصفة الشهيد والمطالبة بالثأر..الثأر..الثأر!!!.
وضمن الملف الفلسطيني المخزي
من يصدق الأخبار الموثقة التالية؟ ومن سوف يحتج عليها من العرب والفلسطينيين؟ وقارنوا ذلك بنفس الغضب والعنتريات التهديدية لو صدرت هذه الأفعال نفسها عن الاحتلال الإسرائيلي؟ تقول هذه الأخبار:
الزهار: حماس تمنع عناصر فتح من السفر
كشف القيادي في حماس محمود الزهار يوم الجمعة الرابع والعشرين من يوليو الحالي (أن حركة حماس قد لا تسمح لعناصر فتح في غزة بالسفر إلى الضفة الغربية للمشاركة في مؤتمر حركتهم السادس المقرر عقده في الرابع من شهر أغسطس القادم في بيت لحم بالضفة الغربية). ورغم الوساطة المصرية بهذا الشأن قال الزهار للصحفيين عقب صلاة الجمعة (نحن نقول الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة). ومن المهم إحالة هذا التعليل لجبهة علماء الأزهر كي يعطوا الشعب الفلسطيني تفسيرا له !!!. فكم من البكائيات كنا سنذرف لو كان هذا المنع من الاحتلال الإسرائيلي؟.
الزهار: زيارة عباس إلى غزة مرفوضة
وعن احتمال زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى قطاع غزة، قال محمود الزهار: (هذا أمر غير مقبول على الإطلاق لأسباب أمنية. كيف سيعود أبو مازن في ظل هذا الوضع الأمني؟ وكيف سيكون استقباله؟).
تصوروا أو تخيلوا لو كان هذا المنع من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كم كان الفلسطينيون والعرب سيرسلون من اللعنات ضد الاحتلال؟. يتحجج الزهار بالوضع الأمني، أما قيادات حماس لا يعرف هو من يؤمن لها تنقلها العلني في كافة مدن القطاع ومخيماته.
قتلى الفلسطينيين في حروب حماس وفتح
منذ الانقلاب العسكري لحماس في قطاع غزة في يونيو 2007 أي قبل قرابة عامين وشهر، اندلعت الحرب بين حماس وفتح في غزة، وحسب المصادر الفلسطينية فقد وقع في تلك الحرب الداخلية (لا علاقة للاحتلال بها) ما يزيد على 700 قتيل و 3500 جريح ومعاق، بالإضافة للمئات الذين ما زالوا في السجون لدى الحركتين. فمن من العرب والفلسطينيين بكى هؤلاء القتلى؟ من يتذكرهم اليوم غير أهالي القتلى؟. أما الطفل محمد الدرة فتكتب فيه حتى اليوم القصائد والمرثيات لأنه قتل بواسطة الاحتلال فقط، أما القتلى الفلسطينيين بيد فلسطينيين فليس مهما، فمرة (الدم ما بيصير مية) و مرة (الدم بيصير أرخص من مياه المجاري).
وكذلك قتلى دارفور
هولاء القتلى من الشعب السوداني في إقليم دارفور الذين تقدرهم أغلب التقارير الدولية المحايدة بربع مليون قتيل، والرئيس السوداني عمر البشير نفسه يقول أنهم لا يزيدون عن تسعة ألاف قتيل!! من يتذكرهم أو يبكي عليهم من العرب؟ لا أحد لأنهم سودانيون قتلوا بأيدي سودانيين، إلى درجة أن الجامعة العربية رفضت قرار المحكمة الدولية بتسليم عمر البشير لمحاكمته.
وأخيرا هذه البشرى من إسماعيل هنية
قال إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، أي غير الشرعية من وجهة نظر السلطة الفلسطينية في رام الله، وشرعية ونص من وجهة نظر حماس في غزة، قال مبشرا الشعب الفلسطيني يوم الجمعة الرابع والعشرين من يوليو الحالي: (إن طريق اتفاق المصالحة الفلسطيني ما زال طويلا محملا قيادة فتح المسؤولية)، وحركة فتح تحمل قيادة حماس المسؤولية، والنتيجة الميدانية انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية لزمن طويل، ومن ضمن نتائجه إقفال القطاع في وجه أبناء الضفة، وإقفال الضفة في وجه أبناء القطاع، كما هو حاصل في تهديد حماس بمنع أعضاء فتح في القطاع من التوجه إلى الضفة للمشاركة في مؤتمر حركة فتح.
هذه الأعمال من الفلسطينيين
بحق بعضهم البعض وإقفالهم القطاع والضفة في وجه من يخالفهم تنظيميا، لن يتوقف عنده أحد من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، أما إقفال معبر رفح من سلطات الاحتلال الإسرائيلي فيستحق الصراخ والإدانة والدعاء بالموت والفناء. إنها ازدواجية المعايير العربية التي تنظر لما يفعله العربي بحق العربي أمرا عاديا لا يستحق التوقف عنده، أما إن ارتكب نفس العمل أجنبي بحق العربي فهذا عمل إجرامي يستحق الإدانة والعقاب....وتذكروا المثل العربي الشائع والمطبق في حياتنا اليومية (أنا و أخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)!!!. ولله في خلقه شؤون !!.
[email protected]
التعليقات