أصبح صعود التيارات الدينية المتطرفة يهدد كافة أوجه الحياة المدنية في غالبية الأقطار العربية، باسم حماية الأخلاق العامة، وتحت هذه التسمية ترتكب من الجرائم ما لا يمكن قبوله في الإسلام الصحيح الذي يقول دعاته المتنورين أنه صالح لكل زمان ومكان. ولا يمكن أن تتوقف هذه الجرائم طالما هناك أفراد أو جماعات أو أنظمة تعتقد أنها وكيلة الله في الأرض، فتحرف النصوص كما تتطلب مصالحها الشخصية. أما بعض الأنظمة العربية فهي تأخذ من الدين ستارا لتعمية عقول الناس وتخدير ضمائرهم بعيدا عن ظلمهم وفسادهم، خاصة أن كل ما يتعلق بالدين من التابوات والمحرمات غير القابلة للنقاش.
الحجاب و البنطلون
ليس هنا محله أو وقته مناقشة هل هناك نصوص قرآنية أو من السيرة النبوية تثبت وجود الحجاب على رأس المرأة، خاصة أن هذا النقاش لا يفيد بعد أن أصبح موضوع حجاب المرأة محسوما لدي الغالبية العظمى من المسلمين فقهاء ودعاة وجماهير. ولكن ما يستحق النقاش هو: هل هناك مواصفات لملابس المرأة بعد أن تكون قد تحجبت فعلا حسب الأصول المتعارف عليها عند هذه الأغلبية، بحيث ما عاد يظهر للعيان سوى دائرة صغيرة من وجهها؟. هل هناك قواعد دينية متعارف عليها بعد ذلك مثل أن تلبس جلابية أو عباءة أو بنطلونا؟ هكذا هو الحجاب في غالبية الدول العربية والإسلامية من مصر إلى إندونيسيا وما بينهما وحولهما، فغالبية النساء ترتدي البنطلون وغالبا ما تلبس فوقه أيضا ما يستر البنطلون سواء سميّته عباءة أم جلابية أم شالا؟ وبهذا اللباس الذي لا يكشف من المرأة سوى دائرة صغيرة من وجهها تسير مطمئنة آمنة في أعتى الدول سلفية.
ما عدا سودان البشير،
حيث القائمين على حماية الأخلاق العامة أكثر حرصا على ذلك من شيوخ الأزهر وفقهاء إيران، بدليل ما تعرضت له الصحفية السودانية (لبنى أحمد الحسين) التي كانت تلبس الحجاب كاملا حسب الأوصاف السابقة، ولكنها تعرضت حسب روايتها: (في الثالث من يوليو الحالي كنت في مطعم حين دخل شرطيون، وطلبوا من الفتيات اللواتي ترتدين سراويل مرافقتهم إلى مفوضية الشرطة)، و أضافت لبنى وهي محجبة بشكل كامل: (لقد اصطحبوني و 12 فتاة أخرى من بينهن جنوبيات، وبعد يومين تمت دعوة عشرة منهن إلى مفوضة وسط الخرطوم لتتلقى كل واحدة منهن 10 جلدات). ووجه إلى الثلاثة الباقيات ومن بينهن لبنى أحمد الحسين التهمة بموجب الفصل 152 من القانون الجنائي السوداني، وينص هذا الفصل على عقوبة 40 جلدة لكل من يرتدي لباسا غير لائق. وفي حالة الصحفية لبنى الحسين ومن معها من الفتيات، فاللباس غير اللائق رغم أنهن محجبات هو ارتداء البنطلون. وفعلا من شاهد صورتها عند اصطحاب الشرطة لها لم يرى سور تلك الدائرة الصغيرة من وجهها، وتلبس بنطلونا وفوقه ما يشبه العباءة التي تستر كافة جسدها.
هل هذه السودان أم طالبان؟
وهو سؤال منطقي حيث لم يعد أحد يعرف ما هي مواصفات الأخلاق العامة واللباس الذي يحفظ هذه الأخلاق، طالما بين المليار وربع المليار مسلم، مئات الملايين الذين نصّبوا أنفسهم حماة للأخلاق العامة، وكل واحد منهم يستخدم الآيات والأحاديث التي يريد لتبرير أفعاله دينيا، وبالتالي حسب منظوره لا يمكن مناقشته أو الطعن في قراراته. فالغالبية من المسلمات المحجبات في مصر وإيران تحديدا وغالبية الدول الإسلامية يرتدين البنطلون،فهل هذه الملايين المسلمة لا بد من جلدها حسب مفاهيم طالبان السودان؟. وهذه ليس أول خطوة منافية للأخلاق العامة يقوم بها دعاة حماية هذه الأخلاق، فقد سبق لأشقائهم الطالبانيين في أفغانستان أن حرّموا التماثيل، وقاموا بتفجير تماثيل تاريخية تعود لألآف السنين، مما حدا بالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي لترأس وفد من علماء ومشايخ المسلمين لزيارة كابول طالبان لإقناعهم بالتوقف عن هدم التماثيل الذي لا أساس له في الإسلام، و إلا لطالب الإخوان المسلمون والأزهر الشريف في مصر بتهديم التماثيل الأثرية الفرعونية وغيرها وفي مقدمتها الأهرام، خاصة أن في مصر ما يزيد عن ثلثي الآثار في العالم. فهل كل علماء وشيوخ مصر والأزهر الشريف لا يفقهون الإسلام، ومن يفقهه هم ظلاميو طالبان بشأن التماثيل في أفغانستان؟. وأشقاؤهم في السودان بشأن البنطلون للمحجبات؟.
التضامن مع لبنى بعد قراءة رسالتها
من المهم قراءة رسالة الصحفية السودانية (لبنى أحمد ألحسين) التي وجهتها للأصدقاء والصديقات وكل من تهمه العدالة:
سلام عليكم أيها الصديقات و الأصدقاء
أشكركم كثيرا وأود أن أعرب عن سعادتي عن هذا التضامن، الذي أرجو أن يسلط الضوء على المادة 152 من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، ذلك أن قضيتي في بدايتها ليست قضية استهداف شخصي لي أنا ككاتبة... ولا هي تفلت عرضي من بعض أفراد شرطة النظام العام.. كلا.. رغم أنها يمكن أن تتحول أو حولت بالفعل لتكون هكذا بعد أن اتخذت القضية منحى آخر هو دعوة الناس والعالمين ليكونوا شهودا على هذه الفضيحة quot; فضيحتي أم فضيحتهم quot; ذلك ما ستحددونه أنتم بعد سماع أقوال الاتهام وشهوده وليس أقوالي أنا.
قضيتي هي قضية البنات العشرة اللواتي جلدن في ذات اليوم....وهى قضية عشرات بل مئات بل ألاف الفتيات اللواتي يجلدن يوميا و شهريا وسنويا في محاكم النظام العام بسبب الملابس.. ثم يخرجن مطأطأت الرأس لان المجتمع لا يصدق ولن يصدق أن هذه البنت جلدت في مجرد ملابس.. والنتيجة الحكم بالإعدام الإجتماعي لأسرة الفتاة و صدمة السكري أو الضغط أو السكتة القلبية لوالدها وأمها.. و الحالة النفسية التي يمكن أن تصاب بها الفتاة ووصمة العار التي ستلحقها طوال عمرها كل هذا في بنطلون..والقائمة تطول، لان المجتمع لا يصدق أنه من الممكن أن تجلد فتاة أو إمراة في quot;هدوم quot;.
ولهذا طبعت 500 كرت دعوة ليحضر الناس والعالمون المتضامنون والأصدقاء والأخوان والشامتون أيضا.. إنها دعوة عامة.. وكما ترون أنني لم أسرد حتى الآن تفاصيل ما جرى.. تعمدت ذلك.. وحتى يسمع الناس بآذانهم ويروا بأعينهم من أقوال الاتهام وشهوده.. وليس منى أنا.
و إذا كانت هناك ثمة أسئلة تدور حول لماذا يقبض على البعض ويترك البعض الآخر؟ فإن هذا سؤال وجيه يمكن أن يطرح على الشرطة أو النيابة..ولنرى ماذا يحكم الناس.. ولنرى ما هي الأفعال الفاضحة ما ألبسه أنا ولبسته البنات اللواتي جلدن؟ أم هذه المهزلة التي قاموا بها و تتكرر يوميا دون أن تجرؤ واحدة على الشكوى خوف الصدمة على والديها من الفضيحة.. إذن القضية هي المادة 152 التي تعاقب بالجلد 40 جلدة أو الغرامة أو العقوبتين معا... في موضوع الملابس الفاضحة دون أن تحدد ما هي مواصفات هذا الزىّ الفاضح؟.
وفوق ذلك اسم المادة في القانون: أفعال فاضحة.. تخيلوا ماذا يمكن أن يتبادر إلى الذهن حين تسمع أن فلانة بنت علان جلدت في النظام العام بسبب أفعال فاضحة؟.هذا ما أردت أن أشهد الناس عليه.. وليسمعوا من الاتهام وشهوده.. أما أنا فلن أقول يوم المحكمة سوى quot; نعم quot; quot; هكذا صحيح quot; ولنرى ما هي الجريمة.. جريمتي التي ارتكبت؟
لبنى أحمد حسين
الخرطوم - السودان
11 يوليو 2009
إن رسالة الصحفية السودانية لبنى الحسين هي أبلغ عرض لقضيتها، وهي تحمل اتهامات واضحة لدعاة الأخلاق في شرطة البشير الذين لم تحركهم جثث مئات ألاف القتلى في إقليم دارفور، لأن هؤلاء القتلى على يد خصومهم من عصابات الجنجويد بأمر وتخطيط وتحريض البشير وحكومته، لا يسيء قتلهم للأخلاق العامة، وفي منظورهم الرجعي المتخلف ينسجم مع تعاليم الإسلام التي يدّعي البشير أنه يحكم باسمه بدليل سجنه ومطاردته لزميله السابق حسن الترابي!!. من هذه الاتهامات في رسالة لبنى هو سؤالها: لماذا يلقى القبض على البعض ويترك البعض الآخر؟ الجواب هو استعمال هذه المادة الغامضة من القانون لملاحقة من يريدون خاصة من يتعرض بالنقد للبشير وحكومته. وهنا نتذكر أن الصحفية لبنى الحسين هي من أجرأ الصحفيين السودانيين، وتكتب مقالا أسبوعيا بعنوان (كلام رجال)، غالبا ما تنتقد فيه ممارسات حكومة البشير والمتشددين السلفيين باسم الإسلام.
إن التضامن مع الصحفية السودانية لبنى أحمد الحسين هو تضامن مع الوجه المشرق للحياة، هذا الوجه الذي يحافظ على الأخلاق العامة التي ينتهكها هؤلاء الظلمة. و إلا فانشروا تفاصيل فهمكم للأخلاق العامة ثم نرى هل تتقيدون أنتم بها في كافة مناحي حياتكم ومع الجميع، أم فقط مع من تريدون تصفية حسابات معهن ومعهم.
[email protected]
التعليقات