بداية لابد من الاعترافquot; أن سورية دولة- أمة وليس دولة قوميات وأثنيات وطوائف، وهذه الدولة ذات السيادة غير المجزأة، هي الدولة الديمقراطية، هذا فضاء يحكم تفكيرنا، بعيدا عن التعصبات من أي نوع كان، ولا تحمل هذه الدولة أي بعد رسالي، ينزع عنها حياديتها السيادية.

ليس عيبا الاعتراف، بأن الأفق النظري والمعرفي في الحقل السياسي، ملغم تماما بموازين القوى، أكثر مما هو منفتح على المسألة القانونية والحقوقية، وهذا أمر يجعلنا، في كثير من الرياء، بدل العودة إلى الواقع المنتج للفكر السياسي، بتفاصيله المتعجرفة، نعود إلى خلاصات هذا الفكر بعدما، نضدته موازين القوى، وقولبته، بما لا يسمح برؤية تفاصيل الواقع الذي أنتج هذا الفكر وأنساقه اللغوية والخطابية. على هذا الأساس يمكننا القولquot; أن الفكر السياسي السوري، هزيل إلى حد أنك تقف دوما أمام أسئلة الواقع، وأنت في حالة من الاختناق تبعا، لمجريات العملية السياسية في الدولة السلطانية. المعارضة السورية تحتقر الدولة، تماما كالسلطة القائمة، ولا تفهم السلطة وعلاقتها بهذه الدولة! لأن الدولة القائمة، هي حالة انتقالية، إما لدولة عربية، أو لدولة إسلامية، أو لدولة عدالة اجتماعية، أو لدولة كردية- ما يتعلق بالشق الكردي من هذه المعارضة.فأية دولة نريد؟
هزالة الفكر السياسي السوري، لا تتعلق بدعوات ثقافوية، أو ننطلق من موقع ثقافي، يحوز على رضا المثقفين، وإنما ننطلق من أن هزالة هذا الفكر، هو إدعاءه الطهرانية المزيفة، والمتوارثة من أنساق أيديولوجية بائدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هذه الطهرانية تمثل أهم ملمح في عجز هذا الفكر السياسي، في أن يحوز على ديناميكيته الخاصة في التقاط التفصيل السياسي المرتبط بالقوى الفعلية على الأرض وأهميته. كما تتعلق برؤية هذا الفكر الموروثة من أن السياسة موقف ايديولوجي فقط! وليست حركية معقدة في هذا الزمن العولمي، أو العالمي وكل ما يترتب على هذه العالمية.

الحديث أننا نريد دولة قانون ومؤسسات وديمقراطية وحقوق إنسان، هو انفتاح موضوي- من الموضة- أكثر منه انفتاح على آليات اشتغال الفكر المتبني لهذه الصيغ، التي أخذت بعدا شعاراتيا، نتيجة للإفلاس في امتلاك قوة التغيير لدى هذه المعارضة بكل أطرها المعلنة. هذا الإفلاس وانسداد أفق التغيير، يدفع بعضنا لمراجعة مفرادته، وثقافته السياسية، ومرجعياته الفكرية، بينما يدفع بعضنا الآخر، إلى الهروب إلى الإمام، لاعتبارات شتى، بقوالب شعاراتية جديدة، لإدخالها القاموس السياسي، الهزيل سوريا أصلا، إلى حيز التداول المغلق على دائرة الاستبداد.

إن دخول المسألة الكردية في سورية الآن إلى نفق شعاراتي، لا يتناسب مطلقا، لا مع تفاصيل الواقع السوري، ولا مع واقع موازين القوى، بل هو مرفوعا، إما ليبراليا، داخل قالب قوموي، او داخل قالب حقوقي، فيصبح هذا القالب النموذج، رافعا للفكر السياسي نحو انعزال كلي عن واقع الدولة السلطانية القائمة، لنلاحظ الان انه حتى كلمة السوري قد غابت عن معظم الرمزيات السياسية الكردية. كما كانت ولازالت غائبة عن رمزيا الأحزاب القومية والإسلامية وبعض اليسارية وكلها أصبحت آفلة، إلا من عقول عجائزها- نحن- وهذا ما جعل الخلط مستمرا وقائما، بين المنتجات الفكرية السياسية، لواقع مختلف، الأمة المواطنة، المسألة القومية، الدولة، السلطة إلى آخر المفاهيم التي لم نستطع حتى اللحظة تبيئتها بما يجعلنا جزء أصيلا من هذا العالم.

السؤال الآن من يبيء هذه المفاهيم؟ أية إرادة فكرية وسياسية يمكن أن تقف خلف هذه التبيئة؟ هل هي قوى المعارضة المأزومة بفعل واقع الاستبداد؟ أم هي السلطة التي تنتشي تماما، بزيادة منسوب التخلف عند المجتمع عموما، والفقر السياسي والفكري عند المعارضة السورية خصوصا؟ بعد هذه الأسئلة كيف يمكننا العودة لنقاش المسألة الكردية في سورية؟ كنت في أوقات سابقة قد كتبت عما أنتجته التجربة العراقية، ولخصت ما افرزه ميزان القوى من تعدد سيادي في العراق، افضى على اضمحلال السيادة الواحدة لصالح سيادات جزئية، لا يجمعها أي مفهوم عما يمكننا تسميتهquot; الدولة- الأمة، أو الأمة- الدولةquot; ولنلاحظ الآن ونتابع مجريات العملية الانتخابية، ما الذي يمكننا استنتاجه، كل تلك السيادات تريدquot; مزيدا من استقلاليتها السيادية الجزئية، ومزيدا من الاستيلاء على الثروة العراقية- كثروة قومية، لكي تتحصن أكثر في إقطاعياتها السيادية. الدولة العراقية، وسلطة حكومتها، لا سيادة لها على أقليم كوردستان العراق، بينما فعاليات الأقليم وزعاماته، لها حصة في السيادة على كل العراق. لنلاحظ الخلاف على مسألة البشمركة، اهم جزء من جيش العراق، ام هم جيش خاص بالأقليم لا يأخذ تعليماته إلا من الفاعل السياسي في الإقليم، هل يقدم ضابط بالبشمركة، التحية لقادة الجيش العراقي مثلا؟

وكذا الأمر ينطبق على مليشيات إيران في العراق، والمليشيات المتواجدة في المناطق السنية، كيف ستتدخل الجامعة العربية من أجل جبهة السياسي العراقي صالح المطلق؟ ولماذا؟ كيف تحتفي وسائل الإعلام تارة بمغادرة السيد مقتدى الصدر العراق، وتارة بعودته من إيران؟ استخدام العنف والإكراه، كاستخدام من صلاحية الدولة فقط، نجده الآن في العراق مبعثر بقدر تبعثر سيادة الدولة العراقية؟ هذا ما أراه، وأتمنى أن يصحح لي أحد ما هذه الرؤية، وهل هذه التجربة يمكن أن تكون نموذجا لنا في سورية؟
قل الكردي وقل الكوردستاني، قل حكما ذاتيا، أو فيدرالية المفاهيم لا يدفع أحد ثمنها نقودا، بل هي ملقاة على قارعة الفقر المريع الذي نعيش سياسيا وفكريا، في ظل موازين قوى كاسحة لصالح الاستبداد. ما الذي يمكن أن تسببه هذه الزوابع الشعاراتية؟

أليست ملفوظة الكوردستانية هي بديلا عن ملفوظة السورية؟ أم هي إضافة مجانية في السوق الشعاراتي المفتوح؟ مثالquot;لا تكن شريكا بالصمت و قل لا لسياسات النظام العنصرية ضد الشعب الكوردي في سورياquot; عموما هذه عبارة تذيل بها كل حملة تضامن مع معتقل كوردي سوري، بينما القمع والتمييز يطال كل الشعب السوري بكل تلاوينه لماذا؟
وهل فعلا الواقع الجيوسياسي، والجيو ديمغرافي في شمال سورية، يتناسب فعليا مع هذا النوع من الملفوظات؟ وهل فعلا النقاش يتم على قاعدة الاندماج في الأمة السورية- الدولة؟ أم أنه شيء آخر؟ ثم ماذا يعني شعار القومية الثانية، أو الثالثة في البلاد؟ ما الذي يضمنه هذا الإقرار سواء كان إقرارا سياسيا من قبل السلطة أو المعارضة؟ أم إقرارا دستوريا من الدولة، إذا لم يكن هناك ميزان قوى يدعمه؟ ومن أين يأتي ميزان القوى هذا في سورية، في ظل هذا التعقيد العياني والملموس في وضعية شعبنا الكردي في سورية؟
رغم أن مقاربتنا هذه تتسم بنوع من التساؤلات، التي يمكن لها أن تساعد على توسيع آفاق الحوار حول هذه المسألة، إلا أننا نؤمن أنquot; الدعوة الليبرالية تُسهِّل اندماج الجماعات والأقليات بمفهوم الأمة- الدولة، من خلال الاعتراف لها داخل نظام مُواطنية مُتعددة ثقافياً وسياسيا بحقوق جماعية محدودة بقيود تحمي حرية الفرد في خياراته بما فيها حريته بالخروج من جماعته laquo;الأصليةraquo; بما لا يتعارض مع السيادة الواحدة والوحيدة للدولة القائمة، ضمن هذا المنظور يمكن للخطاب السياسي أن يجد مبتغاه، في اللعب على ساحة مفتوحة، ساحة تجيز التعدد السياسي، لكنها أبدا لا تهدد الوحدة السيادية للدولة الديمقراطية المعاصرة.

بقي أن نشير إلى ملاحظة، نحن لسنا ضد طرح أي برنامج سياسي، بما فيه حق الانفصال، ولكن على أرضية الوضوح الكامل، وليس اللعب بالحقل الشعاراتي بطريقة تثير البلبلة ولا تنتج طحينا، ومع ذلك لانعتبر ما تقدم هو رأيا نهائيا غير خاضع للمراجعة النقدية دوما وأبدا.