لاأحد ينكر بأن الديمقراطية في العراق ناشئة ومتعثرة وتحتاج الكثير من العمل لتترسخ وتبدو أفضل. إن جوهر الديمقراطية هو ممارسة الأفراد لحقهم السياسي، المكفول بالدستور، من أجل إختيار ناخبيهم الذين يمثلونهم في إدارة شؤون البلاد. وهذا يعني أن الأفراد في الجتمع الديمقراطي عناصر فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي، حيث يستطيعون من خلال أصواتهم الإنتخابية فرض تصور معين لطريقة إدارة الدولة فيما يخص الكثير من السياسات الداخلية والخارجية. لكن هذا التصور نظري أكثر منه واقعي. ففي الواقع أن الديمقراطية هي ليست حكم كل الشعب، بل هي حكم أو دكتاتورية الأكثرية على حد قول (آلان تورين). ومن جهة أخرى أن الفرد الفاعل معرض لتغيير أفكاره وقناعته بين حين وآخر تبعا ً لماكنة الإعلام والميديا التي هي بدورها مرتبطة بجهات لها مصالح في تحديد سياسات الدولة، كالشركات التجارية أو المؤسسات الدينية والحزبية بأيدلوجياتها وأجنداتها السياسية.

الرحلة من التصور النظري إلى التطبيق الواقعي للديمقراطية يمر بمراحل عديدة، وعلى هذا الأساس تكون الديمقراطية ليست عبارة عن أفكار للحكم بل هي ثقافة سياسية لها قاعدة إجتماعية، كقبول الرأي المخالف، وقاعدة قانونية تكفل حق الفرد بالمساواة في الحقوق والواجبات، وقاعدة إقتصادية، حيث ترتبط بفكرة السوق والتجارة الحرة ورفع القيود عن إحتكار الدولة للمؤسسات التجارية والصناعية. إذن، هي ليست شيء ثابت بل هي في حركة وصيرورة دائمة تتطور بتطور الثقافة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. ومعنى كونها صيرورة متحركة هو إنها بحاجة دائمة للإدامة والتطوير والحفاظ على المكاسب المنجزة منها. ومن جهة أخرى إن المسافة بين الفرد كصاحب سلطة وبين الدولة كمؤسسة لإدارة الدولة شاسعة حيث تملئها منظمات المجتمع المدني التي وظيفتها رفع ثقل العمل الإجتماعي والسياسي عن كاهل الدولة فتقوم هي، كواسطة بين الفرد والدولة، بلعب دور كبير من أجل تحويل المجتمع إلى مجتمع مدني.

لقد كان العراق يحكم من قبل نظام دكتاتوري توتاليتاري يتحكم بجميع مفاصل الدولة. وبعد سقوط النظام ومجيء الإحتلال إنهارت مؤسسات الدولة بجميع مفاصلها بانهيار الفرد والحزب الواحد. ومع عدم وجود مؤسسات تملأ الفراغ، بدأت المؤسسات الدينية والعشائرية والأحزاب التي تبحث عن نفوذ بملأ ذلك الفراغ لتصبح هي صاحبة السلطة الحقيقة بدل الفرد والدولة. هذا كان شيء طارئ بحكم الفراغ الذي خلفه نظام الفرد والحزب الواحد، لكن توجد أشاكليات أخرى هي دائمة ومزمنة تعمل بالضد من الثقافة الديمقراطية وتتعلق بطبيعة وبنية المجتمع العراقي والثقافة السائدة فيه، ساعدت على تقويض مبدأ حق الأفراد في إدارة الدولة. من هذه الإشكالات هي سلطة المؤسسة الدينية والعشائرية.
الكل يعرف أن المؤسسة العشائرية والدينية في العراق تمتد جذورها إلى مئات السنين ولها دور كبير في صناعة السياسات الداخلية والخارجية للدولة. لكن قبول النخب السياسية والثقافية ومن ثم العراقيين بصورة عامة لمبدأ الديمقراطية يفرض عليهم التنازل عن الكثير من التبعية للمؤسسة العشائرية والدينية. فما يتعلق بالعشيرة فهي نظام يعتمد على الثقافة الجمعية في التفكير والسلوك، وما الفرد إلى جزء لايتجزء من هذا الجمع. ومن يخرج عن هذا الجمع يكون منبوذا ً من الناحية الإجتماعية. ويرتبط الفرد بعلاقات نسَبية على أساس رابطة الدم، تحكم حركته وتفكيره وتلقي على كاهله واجبات والتزامات وفي نفس الوقت تؤمن له الحماية وتكفله في جميع المحافل الإجتماعية. والأفراد في هذه العشيرة يتفاوتون بالقيمة حسب قربهم، بالدم، من رئاسة العشيرة. فوظيفة العشيرة بصورة عامة من أجل البقاء هو الحفاظ على العادات والتقاليد التي ورثتها أب عن جد، والتي تكرس الثقافة الذكورية، وكحال كل النظم المحافظة لايقبل مبدأ العشيرة التغيير الدراماتيكي، بل بالتغيير البسيط النسبي الذي لايمس جوهر العادات والتقاليد وطبيعة حكم رؤساء القبيلة.

أما المؤسسة الدينية فهي نظام هرمي يقوم بالحفاظ على العقيدة الدينية من الأفكار الطارئة والتي يسميها بدع وظلال. تعتمد هذه المؤسسة في وجودها على الحاكمية لله والذي يتعارض مع مبدأ الديمقراطية بشكل مباشر. وترتبط المؤسسة الدينية، على السواء السنية منها والشيعية، بأفرادها عن طريق التقليد والفتاوى التي تصدرها وتلزم أتباعها بها إنطلاقا ً من إحتكار مبدأ الحلال والحرام. وتكرس المؤسسة الدينية الثقافة الأبوية التي تعتمد على سلطة الأب على باقي أفراد العائلة. وترتبط المؤسستان الدينية والعشائرية بعلاقات إقليمية واسعة وبعلاقات مع الطبقات البرجوازية التي تمسك بيدها سلطتي المال والمعرفة.

إن مايحدث في العراق من تحول ديمقراطي يحتاج للكثير من النضوج والتطور للوصول لصيغ مقبولة لحكم هذا البلد. فالتحول الديمقراطي لم يتم، وهذا طبيعي جدا ً، وذلك لئن السلطة انتقلت من حكم الفرد والحزب الواحد إلى حكم العشيرة والمؤسسة الدينية، فهي لم تصل بعد للمواطن صاحب الحق الشرعي. فالمؤسستان تمسكان اللآن أغلب خيوط اللعبة السياسية في العراق، لذلك نرى تهافت السياسيين على كسب رضى العشائر العراقية ورضى المؤسسة الدينية من خلال الزيارات التي تقوم بها الأحزاب الدينية وحتى الليبرالية منها. بل يطلب رضى هذه المؤسسات الوسط الأقليمي والدولي بزيارات يقوم بها مبعوثو الهيئات الدولية والأقليمية. لحد الآن لاتوجد هناك مشكلة، فهذا طبيعي بوضع كوضع العراق يعيش أزمات وقلق وإضطرابات.

إن المشكلة الحقيقة هو في وعي الطبقة السياسية والنخب الثقافية بمستقبل العراق وخيار الديمقراطية الذي يسيرون عليه. إن تهافت الأحزاب على تقوية سلطة العشيرة والمؤسسات الدينية يجعل من مبدأ الديمقراطية كخيار مستقبلي حبر على ورق أو وهم لايمكن أن يتحول إلى حقيقة. فدعم المؤسسات العشائرية، من قبيل مجلس إسناد العشائر، والمؤسسات الدينية، من قبيل دعم النشاطات العبادية كالزيارات الدينية وغيرها، يحد من سلطة الفرد ويجعل منه عنصر ضعيف لايقوى على حركة التغيير التي نحن بأمس الحاجة اليها. لتركيز المفاهيم الديمقراطية لابد من توجه نحو الفرد بدل الجماعة كالعشيرة وغيرها من مؤسسات دينية، نحن بحاجة لدعم الفرد وجعله فاعلا ً ليتحقق مبدأ فاعلية الفرد.

إذن، الحل هو بالتوجه نحو الفرد بدل الجماعة، وترسيخ مبدأ القانون يسود ليحتمي به ذلك الفرد بدل إلتجائه للعشيرة والمؤسسة الدينية، فمبدأ الديمقراطية يعتمد بشكل كبير على الفردانية بدل الجمعية. تفعيل المساواة بالقيمة بين أفراد المجتمع، على الأقل أمام القانون، وإجتماعيا ً بتفعيل دور المرأة في المشاركة بالعمل السياسي والإجتماعي وغيره. تمكين الفرد في الفاعلية السياسية والإجتماعية يعتمد على وعي ذلك الفرد، لذلك لابد من رفع مستوى الوعي لدى الفرد بالتركيز على التعليم والتنمية البشرية لخلق طبقة واعية تقوم بخلق خطاب يساهم بتركيز المجتمع المدني. أخيرا ً وليس آخرا ً. التوجه نحو تقوية منظمات المجتمع المدني لتساعد الدولة على حل الكثير من القضايا التي تهم الفرد وتكون نواة لمؤسسات تحل محل المؤسسة الدينية والعشائرية.

[email protected]