سبق أن كتبتُ في أيلاف مقالاً quot; أِتصالات سِرية لرئيس الوزراء العراقي القادم!quot; ملخصه: أن العراق بوضعه الحالي وفي ظل مناخ التمزق القومي المذهبي، لاتحكمه سلطة مركزية قوية وتتصف كياناته وأقاليمه بضعف قيادي عام وتنافس خفي على السلطة quot;. أن الصمت الحالي سبّبَ أنشقاقات بين أعضاء في كُتل العراقية والصدرية والمجلس الأسلامي (رغم نفيها)، حيث تظهر صوره المختلفة الى السطح في لعبة تبادل الأدوار والتصريحات. فعناصر القوى السياسية تناور في صراعها الغامض مابين العلمانية والحرية الدينية، الأمر الذي قد يحدو بالبعض ( لمصلحة أنية وبمحض أرادتهم الخاصة ) لرمي ثقلهم في أحضان قوى شريرة وتقديم وعود لها بالمُشاركة في الحكم والوصول الى السلطة السياسية بنفس الطرق الأبتزازية القديمة التي من شأنها الأضرار بمصالح العراق الأمنية والأقليمية،ويتم تبريرها بوسائل أِعلامية ممولة يُطلق لها العنان في الوقت المناسب وتكون على المدى البعيد أشدّ خطراً من سائر ما سبقها من مساومات في الحكومات الثلاث السابقة.

بدايةً، أود التوضيح بأن العلمانية هي طريق الخلاص الوحيد للعراق الموحد ومعايشة روح العصر بلا طائفية وتعصب. والطبقات الشعبية العراقية التي صوتت في أِنتخابات في السابع من اذار (مارس) الماضي، صوتتْ بضمير ووعي وأدراك وأمل لدولة علمانية تفصل بين وظيفة السلطة ومؤسساتها الحكومية، في نفس الوقت تحترم الأديان والمعتقدات. ومانتمناه ونرغب فيه، أن يفيق الناس من غيبوبة التهم المتبادلة وينبهون سياسييهم للخروج من هذه اللعبة القذرة التي تدور معظم فصولها في دول مجاورة والأهتمام بخدمة الشعب وتطبيق المناهج التي وعدوا الشعب بتنفيذها.

الملاحظة الأولى : لن يكون بأمكاننا كشعب فكَ رموز وطلاسم وألغاز الأشارات التي يرسلها قادة وممثلو هذه الكتل لبعضهم البعض ولايهمنا ما تُبثه قوى عراقية لها أرتباطات خارجية الى الرأي العام الشعبي المحلي والأقليمي، ومن الأصعب علينا تمييز عناصر الصراع العلماني عن قوى الأبتزاز السياسي التي تدعي التقدمية والليبرالية والعلمانية بالشكل الذي يصدر عنهم أو الناطقين بأسمائهم وفق العبارة الجديدة المتداولة بين الكتل السياسية ( لن نشترك أِلا في حكومة ناجحة ). ولعمري، كيف تنجح حكومة قبل تشكيلها؟
الملاحظة الثانية: تتعلق في بحث مُصغر، حاولت الأجابة على سؤال يُشغِل نسبة كبيرة منا : هل في العراق قوة علمانية حقيقية؟ من يقودها؟ والحقيقة أن موضوع البحث quot; العلمانية quot; يحملنا بالرجوع الى الفترة الزمنية الأولى من أنقلاب 8 شباط عام 1963 ووصول البعث كقوة علمانية الى السلطة السياسية وما تبعها من فصول تقتيل للشيوعيين والقوميين والأكراد وأرهاب القيادات الدينية وأسكات أصواتها، أعقبها تواصل الأنقلابات في 17 تموز وأخر بعد 13 يوماً في الثلاثين من تموز عام 1968، التي أُطلق عليها صفة العلمانية زوراً بعد ملاحقتها القيادات العلمانية البعثية واليسارية منها وأسكات أصواتها منذ عام 1983 وأرتكاب أبشع صور الجرائم الأنسانية التي عرفها التاريخ بحق شعب العراق بظهور أعتى شخصية أستبدادية تقمص رئيسها وأسرته ثوب علمانية البعث وألبس تشكيلة منهم لباس العلمانية quot; القيادة القطرية ndash; فرع العراق quot;، وأقام لنفسه نظام العائلة المتفسخ وحمل شعارات زائفة قبل كشفه وزمرته عن أنيابهم وبدأوا فتكهم الدموي ببقية أعضاء الحزب البعثيين العلمانيين المُعارضة لحكم الفرد وأخضعوا طبقات الشعب والأصوات الدينية لهمجية برزان ووطبان وسبعاوي وعلي المجيد وزمرة مخابرات تابعة للعائلة.

ولعل أهم أسباب أهتمامي السياسي بموضوع العلمانية هو الفترة الزمنية الثانية التي تبدأ بداياتها بالرجوع الرمزي والفعلي لكتل المعارضة على اشكالها الى العراق بعد سقوط النظام عام 2003 وخضوعهم المُطلق للأرادة الأجنبية وماجرى منذ عهد (كوكتيل) ألتقاء القوى التي تدعي العلمانية بالقوى الدينية بأشكال أِنتهازية مثيرة للشكوك باتصالاتها وعمليات تمويلها الخارجية.

الملاحظة الثالثة : تتعلق بنقمة الطبقات الشعبية العراقية لِما يثيره الناطقون من تصريحات صحفية بأسماء كتل عراقية مختلفة، التي سببتْ موجة من الأستياء والغضب بين الكثير ممن صوّتوا في الأنتخابات لصالحهم. الأساليب المتبعة لما بعد الأنتخابات والمناورات السياسية المتناقضة الأغرض في مجالس وأجتماعات تتكرر في دمشق وعمان وطهران وأنقرة وألأرباك اليومي وأفحام الشركاء الفرقاء، والتشكي بوجود ضغط أيراني، وطلب الوساطة السورية بين بغداد وطهران، والوساطة التركية للتدخل بين الكتل العراقية المختلفة ووضع اللوم والحجج وألأسباب على واشنطن مرة وطهران مرة أخرى ماهي أِلا تهيئة خبيثة لرجوع البعث العشائري وعصابات محترفة وضباط مخابرات، وقد تكون بداية جديدة لحملات الأنتقام والأبادة الجماعية ( وتعويد المجتمع) على أنها حالة حياتية طبيعية تسود كل المجتمعات،كما وصفها الشاعر أحمد مطر quot; أنا السببْ في كل ما جرى لكم يا أيها العربُ quot;.

الملاحظة الرابعة: لابد من الأعتراف بكل صراحة بأن العلمانية لم تصل أرض العراق بعد ولم تدخل روؤس البعض رغم أدعاءهم بها. العلمانية مبدأ وفكر وثقافة لتطبيق قناعات. أنها أختيار لتسيّير الدولة وفق مناهج علمية تُميِّزُ مابين الحرية السياسية وحرية المعتقدات الدينية بصيغ توفيقيّة. وقد صوتت الطبقات الشعبية لنجاح الفلسفة العلمانية لتميّيزها وفصلها لخيوط الدين عن الدولة في توجيه علاقات الدولة وكمحرك للنمو ألأقتصادي وبناء المجتمع المدني على أُسس صحيحة دون الأساءة الى المؤسسات الدينية والتقارب الروحي بين الديانات السماوية. وهو الأختيار الوحيد الملائم لخروج العراق من أزماته وعلله السياسية والأجتماعية والحالة الأقتصادية البائسة. ومهما حاول بعض الصحفيين العراقيين ومحللي القنوات الفضائية العربية تفسير الغموض الذي يحيط مشاركة العشائرية الرجعية وقوى البعث القديم وقوى التطرف المذهبية وركوبهم موجة العلمانية، فأن تحليلاتهم ستبقى مُجزءة ومقطوعة ومُحيّرة للجميع.

الملاحظة الاخيرة : الملايين من الطامحين بأعلاء مؤسسة الدولة العلمانية (التي رافقت حملة الأنتخابات ) يطمحون لنجاح أهدافها في العراق وعدم اثارة ما يضعف الجهد الوطني. وأغلب الظن أنه بوصول عناصرها وثقافتها الفكرية المنهجية ستزول طبقة ديمقراطية السوق واللهجة الخطابية ودعوات الأنشقاق والأنقسام والأنقلاب ويحل محلها اللهجة الجديدة ومهام (حكومة ناجحة ) تتمثل فيها الدولة العصرية التي تشرف على مصالح العامة وتتمسك بالقيم الروحية والدنيوية كما تتمسك بالنهظة االتي يحتاجها العراق في الصناعة والزراعة والتجارة والتكنولوجيا والبناء اليومي لأرض الرافدين.

باحث سياسي وأُستاذ جامعي