أنتقدني بلطف أحد قراء أيلاف على الفقرة الأخيرة من مقالي السابق quot; العقود أجنبية والدماء عراقيةquot; وتذكيري للناس بعقاب الله للفاسدين : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } [الأحزاب:66].


وللأيضاح، أجدهُ محقاً تماماً في نقده لأني أصلاً، فكراً وسلوكاً، أؤمن بعدالة القضاء وتطبيق أجراءاته بحق وحقيقة. ولكون الكثير من الناس في مجتمعاتنا و طبقات من المثقفين بيننا يؤمنون بالعدالة السماوية التي سينزلها الله بحق زمر الجشع والربح المادي والفساد الحكومي المستشري في مؤسسات الدول، عربياً، وأسلامياً، ودولياً، كانت محاولتي أيصال الرسالة الى القراء على النحو الذي يسندُ معتقداتهم الروحية.


وللتوضيح الأشمل، فأن أحساسي الفطري يتجه الى نشر العدالة وجدوى القصاص على الأرض دون أنتظار عدالة الله والتوسل والدعاء والتضرع الدينيلمعاقبة الأشرار والمجرمين والقتلة. ومع أجلالي للمؤمنين بالأدعية دينية كعقاب، أِلا أن هذه العبارات المُهونة للنفس لاتدخل في القاموس العصري السياسي للجريمة وطرق العقاب. فأني لاأجد قيم تطبيق العدالة السماوية في تعابير quot; حسبي الله ونعم الوكيل quot; وquot; الله ينتقم منهم quot; وquot; سيواجهون عذاب الآخرة quot; quot; والصبر مفتاح الفرج quot;، بالأخص للمجرمين الذين ينادون quot;الله أكبر quot; وهم يذبحون مسلماً، جندياً، شرطياً أو يفجرون مسجداً أو سوقاً عامة. كما أني أجد قيم العدالة السماوية، رغم تطرق الكثير من الباحثين لها ومعانيها الروحية وأهميتها في المجتمعات المُحافظة، لاتفي بمفهوم العدالة والقانون الوضعي والولوج الى عمق الحقيقة عند وضع المادة بقوانين شرعية على المحك. المناقشة الموضوعية للعدالة التي يتنافس في تفسيرها رجال الدين والسياسة والقضاء لها ظروفها الزمينة وبيئتها المكانية، وعندما تغييّرَ الصورة تتغير الأساليب. وقد يكون ذلك من الأسباب المعنوية والمادية التي تجعلني أميل ألى العدالة الاجتماعية الوضعية قلباً وقالباً وعلمأ وبحثاً.


أن الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والأسلامية، لاتدعو الى الأنتقام بقدر ماتدعو الى العدالة والمحبة الأنسانية. وقد تلاعب المفكرون والسياسيون والدينيون في تفسير تطبيق مبدأ العدالة والعقاب الألهي لِما يخدم أغراضهم ونواياهم في الآف من الكتب منذ زمن الاغريق وعهد الثورة الفرنسية وعصر النهظة الى العصر الحديث.
وبعيداً عن خرافات المنجمين عن العدالة الربانية المنشورة التي يجدها القاؤئ هنا وهناك ومبايعة بعض المجتهدين للأنظمة السياسية لها، فأنه ليس في الأمكان الأستغناء عن مكاتب الدولة القضائية وألادعاء العام وجهاز الاشراف القضائي والمتابعات القانونية الأصولية لأنزال العقاب بشكله الوضعي (أدلة أثباتية، محامون،شهود، وقضاة ) دون تدخل شرعي من مرجعية أو هيئة دينية.


ومن الملاحظ، أن أعتبارات القضاء وأحقاق الحق وأنزال العقوبة تتلاشى وتضعف في دول يسودها المحسوبية والوساطة والمشيخة والعشائرية ويتلاعب في تفسير نصوص دساتير هذه الدول وأنظمتها ساسة ترتسم على وجوههم جدية الجد والمنطق والتمادي في أطلاق نصوص الجهل والأجحاف بعدم أحقاق الحقيقة، وكشفها بصورها الثابتة دون تبادل الأتهامات فيما بينهم والكف عن التدخل في أستقلالية القضاء.


فمثلاً، quot; تشكل مجلس القضاء الاعلى العراقي بعد سقوط النظام السابق بموجب القرار (35) في 2003/9/17 لغرض ادارة شؤون المحاكم كافة وأعقبه صدور القرار رقم (12) في 2004/5/8 حيث تم فصل القضاء عن وزارة العدل باعتباره سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية quot; وذلك كما ورد في القرارات، كما أن محكمة التحقيق المركزية التي تحقق في الجرائم المهمة التي تشمل جرائم الارهاب بالدرجة الأولى والفساد الاداري والجريمة المنظمة وجرائم الخطف اضافة الى الجريمة الاقتصادية وجريمة غسل الأموال وجرائم مكافحة المخدرات، تمارس صلاحياتها وفقاً لقانون اصول المحاكمات الجزائية المرقم (23) لسنة 1971 المعدل. وللمحكمة صلاحية التحقيق في جميع الجرائم التي تعهد اليها من مقرات الاعتقال في وزارتي الداخلية والدفاع ومن المديرية العامة للتحقيقات الجنائية بكافة فروعها بالاضافة الى القضايا التي تحال اليها من القوات الأجنبية وهيئة النزاهة.


فأذا صحت كل تلك الشمولية، فلا موجب للعدالة الألهية اللاحقة أو المؤجلة (أن صح التعبير) التي يطلقها البعض كأطلاق راح مجرمين مدانين بجرائم أرهابية، وقرارات عفو أجرائية لتخلية سراق ولصوص وأعانتهم في وقت يقف العراق كدولة ومؤسسة على حافة أخطار محدقة، ولاموجب لتدخل ساسة السياسة الحرة وتعابيرهم المنمقة في أستقلالية القضاء وأجراءات سيره.


أن الكثير من الجرائم كان قد تم أرتكابها بأسم الديانات السماوية التي لم يكفل الله أنزال العقاب بمرتكبيها. ففي الحقول الأكاديمية التي يشترك فيها الكثير من علماء القانون الوضعي اليبرالي الغربي تُطرحُ للمناقشة والجدل، بين الحين والحين، مواضيع لجرائم أنسانية كبيرة أرتكبها الغرب المسيحي، مثلاً، بحق البشرية دون عقاب، ومنها على وجه التخصيص جريمة ألأستعمار والعبودية التي حلت بالعالم في القرنين الماضيين والجريمة الأقتصادية التي هزت العالم المالي و بدأت جذورها برؤوس السرقات اليهودية الجشعة في نيويورك والتي أدخلت العالم في فقر عام و بطالة قاسية وكساد أقتصادي.


quot; العدل أساس الملكquot; لن يكون قريباً الى العدل والحق أِن كان الغرض منه تحقيق طموحات طبقة حاكمة أو مجموعة من المافيا تسيطر سياسياً واقتصادياً ودينياً على معتقدات الناس وتصوغ لهم طرق تفكيرهم في وسائل أعلامية جبارة لاعلاقة لها بمبادئ الديقراطية وتفرد القوانين لمصالحها الخاصة أو تغض الطرف عنها وقتما تشاء.
فتارة تُشيدُ بمواقف القضاء وتارة أخرى تطعن به وتتوقف الساعة لفترة عن ملاحقة المطلوبين والمفسدين وسراق المال العام وتتجمد في العروق أسس التدقيق في هوية المشاركين فيه بتقييد عمل السلطة القضائية وأستقلاليتها وبتسليط هيئات ولجان وقرارات فوق بعضها البعض حسب دوافع ومشيئة مُردديها وأصوات تتعالى دفاعاً عن المجرمين والأرهابيين واللصوص وتتناقض كلياً مع مبدأ العدالة وتنقض صلاحيات القضاة المُقيدين وأنقاص دورهم.


أن مايقلقنا اليوم هو تسليط هيئات ولجان وقرارات مجلس النواب والقضاء الأعلى وهيئة المساءلة والعدالة وهيئة التمييز، حيث تبرز للسطح سلطات حقوق غامضة متناقضة، بتأييد أو رفض أو هيمنة، من مسؤول حكومي رسمي في السلطة وتؤدي بالنتيجة الى ضياع الحقوق المدنية وضياع الألتزام بالدستور والقانون، ليحل محلها تطبيق قيم غيبية جديدة للعدالة السماوية.

أستاذ جامعي وباحث سياسي
[email protected]