يشير ما يحدث اليوم في الساحة السياسية العراقية الى أن بعض القوى والأحزاب السياسية أصابها جنون العظمة بعد وصولها للسلطة التي كانت حلماً طالما راود المخيلة المريضة بعقد طائفية لقادتها وزعمائها وقواعدها وهذا الأمر وليس الحرية والديمقراطية هو ما دفعهم لمعارضة النظام السابق الذي أصيب قبلهم بنفس المرض وكانت نهايته لاتسُر عَدُواً ولاصَديق وستكون نهاياتهم مشابهة أو أسوء وربما أبشع إذا بقوا سائرين بالطريق الذي هم سائرين فيه اليوم تأخذهم العزة بالإثم الذي أوغلوا فيه كثيراً..لقد تعَوّد ساسة هذه الأحزاب منذ 2003 وبسبب سياسة الأمريكان الخاطئة التي نصّبتهم قادة للعراق الجديد بغير وجه حق أن يكونوا الآمر الناهي بالبلاد يصولون فيها ويجولون يتقاسَمون مناصبها ويَضَعون دستورها ويُشَرّعون قوانينها كما يشاؤون دون أن يحاسبهم أحد بإعتبارهم كانوا(معارضين مناضلين!) حتى إذا جاء الوقت الذي بدأت فيه الديمقراطية التي فرَضها عليهم الأمريكان وقبلوا بها وبآلياتها صاغرين تؤتي ثمارها وإستشعروا إفلاسهم وعزوف الشارع العراقي عنهم وعن خطابهم ونضوج الوعي العام لدى شرائح واسعة منه ومَيلها لقوى وتيارات ذات توجه وطني ليبرالي علماني أصيبوا بحالة هستيريا حقيقية وملموسة تبدوا أعراضها بوضوح على أصحابها وليس كتشبيه لفظي وأي مُتابع للشأن العراقي الآن بإمكانه ملاحظة هذه الأعراض وتشخيصَها في حَرَكات وتعابير وَجه وطريقة حديث هؤلاء الساسة ناهيك عن تصَرّفاتهم وتصريحاتهم غير الموزونة التي توحي بأنهم قد بدأوا يفقدون السيطرة على أنفسهم فتراهم يُهدّدون ويَتَوَعّدون ويُرعِدون ويُزبدون عند ظهورهم على شاشات التلفاز في هذه الأيام.
في الأيام الأخيرة أخذت هذه الهيستيريا والتي بدأت خلال الأسابيع الماضية خفيفة وكلامية فقط تتطور وتصل بأصحابها لمَدَيات من الخطورة بدأت تثير القلق ولا يمكن السكوت عليها والوقوف موقف المتفرج منها على القوى والأحزاب السياسية المنافسة لتلك المصابة بهذه الهيستيريا وعلى عموم الواقع العراقي تم التمهيد لها بلعبة المساءلة والعدالة فقد وصل الأمر الى حَد إعتقال وأغتيال مُرشّحي تلك الأحزاب وتفجير مقراتها والآتي قد يكون أسوء مع إقتراب العد العكسي لموعد الإنتخابات.. إن الأمر الخطير الذي ينبغي الإنتباه إليه الذي نود الإشارة إليه هنا هو ذلك التمهيد الخبيث بإثارة موضوع المساءلة والعدالة والذي كان أشبه بالفتيل الذي اشعلته تلك القوى والأحزاب المريضة بكومة من القش الجاف الذي تمثله قواعدها وبات اليوم مُبرراً لكل ما تقوم به هذه الأحزاب دون أن يسائلها ويحاسبها أحد وهنا تكمن المشكلة.. كيف حدث هذا الأمر؟.. كيف بات إستحداث هيئة هلامية جلاتينية عليها آلاف علامات الإستفهام و ليس لها أي غطاء قانوني سوى غطاء الحقد والثأر أكثر مصداقية وقانونية ودستورية من هيئة تمييزية إنتُخِب أعضائها من ضمن قضاة محكمة التمييز العراقية؟
وبأي حق تشتكي مفوضية الإنتخابات التي عليها هي الأخرى مئات علامات الإستفهام لدى المحكمة الإتحادية العليا على قرار صَدَر من هيئة تمييز إنبثقت منها وتراه غير مُلزم لها في حين ترى نفسها مُلزَمة بقرار هيئة مفتعلة وغير قانونية كالمساءلة والعدالة؟.. كيف يكون قرار ما يسمى بهيئة المساءلة والعدالة أكثر قانونية ودستورية من قرار هيئة دستورية كهيئة التمييز تابعة للمحكمة الإتحادية العليا؟.. وأي مصداقية لأشخاص لم يتم إنتخابهم بل عُيّنوا من قبل قوى سياسية بعينها فيهُم من هو محكوم بجنحة وكان مسجوناً لدى القوات الأمريكية وقُبض عليه لعلاقته بالمجاميع الخاصة التابعة لإيران التي قتلت وذبحت خيرة أبنائنا وكانت ترمي بجثثهم المقطعة الرؤوس بالشوارع والطرقات بالمقارنة مع قضاة عراقيين مشهود لهم بالنزاهة والعدالة؟
أليست هيئة التمييز هذه هي التي إتفق الجميع أن يكون لها القول والقرار الفصل الذي يَسري على الجميع في هذا الموضوع؟.. لماذا يوم جاء القرار في غير صالِحِكم أقمتم الدنيا ولم تقعِدوها وهاجمتم الهيئة وقرارها وإعتبرتموه خرقاً للدستور وإتهمتم قضاتها مرة بأنهم بعثية وثانية بأنهم تابعين للأمريكان حتى إذا تم الرجوع عنه في سابقة لم يشهدها تأريخ القضاء العراقي نتيجة ضغوط وتهديدات (عصابجية ورعاع) أحزابكم الذين تعودوا على الإجرام وإمتهنوه رحّبتم بالقرار وصفقتم له وبدأتم تشيدون بنزاهة القضاء العراقي وإستقلاليته؟.. إن المُضحك المُبكي في الأمر هو أننا لم نسمع بأن قضاة محكمة التمييز قد جاء بهم الأمريكان كما فعلوا مع من يتّهمون هؤلاء القضاة اليوم بالتبعية للأمريكان! كما إننا لم نسمع بأن قضاة محكمة التمييز كانوا يوماً ضيوفاً على بعض الدول وترَبّوا بأحضانها ونهلوا فكرها وتبنّوا سياساتها وحاولوا مساعدتها بتصدير تجاربها الفاشلة لبلدانهم بل وحاربوا الى جانبها كما فعل بعض دعاة الإجتثاث ممن يتّهمون اليوم القضاة العراقيين والقضاء العراقي بالإنصياع لضغوط ومؤثرات خارجية!.. تساؤلات كثيرة يعرف الكثيرون الإجابة عنها وعن غيرها لكن القليل منهم من يمتلك الجراة على البوح بهذه الأجوبة وتوعية الناس بها وهنا تكمن المشكلة المتمثلة في سلبية الطبقة الوسطى والنخبة الواعية المثقفة التي لاتزال تقف على التل وتتفرج على مايحدث وكأن الأمر لايخصها و إن تحدثت فبمجاملات وعموميات لا تخدم سبل الخروج من المأزق الحالي للبلاد.
أن أغلب القوى والأحزاب المصابة بحالة الهيستيريا التي تحدثنا عنها آنفاً كانت ولاتزال تتحدث عن كونها تمثل توجهات الشعب العراقي وبأنها قامت بما قامت به سابقاً وتقوم بما تقوم به الآن تلبية لرغباته وبالتالي تتحدث اليوم ودون تخويل منه عن أنه رحّب قبل أيام بقرارات مايسمى بهيئة المساءلة والعدالة فيما رفض وإستهجن القرار الأول الذي أصدرته هيئة التمييز ليَعود اليوم وبقدرة قادر ويرحِّب بقرارها الثاني الذي صَدَر تحت الضغوط والتهديدات ويثمنه ويقدِّره وهو حديث كاذب لاصِحّة له يختلف بإختلاف طبيعة وَعي ومُستوى ثقافة وتمَدُّن الشرائح التي تقصدها هذه الأحزاب بدليل أن الشعب العراقي لم يَنتخِب مُوظّفي ما يسمى بهيئة المساءلة والعدالة وإنما تم تعيينهم من قبل جهات سياسية معروفة في حين أنه إنتخب بعض مَن إجتثتهم هذه الهيئة وممثليه في البرلمان هم من إنتخبوا قضاة هيئة التمييز السبعة من بين قضاة محكمة التمييز التابعة للمحكمة الإتحادية العليا فعَن أي شعب تتحدث هذه القوى والأحزاب؟.. ثم إن كنتم تمثلون هذا الشعب وواثقين من ولائه لكم ولأحزابكم لماذا لاتتركونه ليُقرّر عِبر الآلية الشرعية الدستورية الوحيدة التي يستطيع عن طريقها التعبير عن رأيه وهي الإنتخابات من يُريد ويَرغب مِن السياسيين ومَن مِنهم يُمثل آرائه وطموحاته ولماذا تريدون اليوم مصادرة هذا الحق وتزوير إرادته بإدعاء تمثيلها بقرار مُسبَق وبالتلويح عِبرَ أبواق وإمعات أحزابكم عن نيّتكم بمنع إجراء الإنتخابات وبحَسم الموضوع من قِبَلكم وعدم تركه للشعب ليقرره بحُجّة رفعه عن كاهله وكأنه شعب قاصر ليس به من الشرئح الواعية والمثقفة مما لا تستوعبه عقولكم رغم أنكم قتلتم وهجّرتم منها الكثير لكن مازال مِنها مَن هُم اليوم أشواكاً في عيونكم!.. إن ما يحدث في هذه الأيام كشَف عن نوايا مبيّتة كانت تبطنها بعض القوى والتيارات المفلسة لتسقيط وإجتثاث ليس البعثيين ومن يُروّجون للبعث كما تدعي في ظاهر الأمر وإنما قوى وتيارات سياسية وطنية علمانية ليبرالية كانت ولاتزال أكثر شعبية وجماهيرية منها وهو ما أدخلها بحالة الهيستيريا التي تعيشها حالياً و تحدثنا عنها آنفاً والتي دفعتها لإتخاذ تلك الخطوة الغبية بملاحقة هذه التيارات المنافسة وبعض الشخصيات المؤثرة بها ليس بتهمة الإنتماء للبعث بل الترويج له والعلاقة به سابقاً وهو إتهام هلامي جلاتيني فضفاض كالهيئة التي أصدرته لايمكن التحقق منه 100% وهي نفس حالة الهيستيريا التي دفعتها بالأمس لمهاجمة هيئة التمييز وإتهامها بخرق الدستور والقانون بسابقة مضحكة مبكية وكأنها ليست هي التي تضع القوانين وتقِر الدساتير وتضفي عليها الشرعية بل إن هذه الحالة الهيستيرية وصلت هذه الأيام لدى البعض وبعد ان أسقط بيدهم ويد أسيادهم الى مَراحل مَرَضية متقدمة وخطيرة تدفعهم للتفوه بكلمات نابية وتصريحات ذات نبرة هجومية تهديدية واضحة وصلت حد التهديد بإستخدام كل الأساليب والخيارات وتركها مفتوحة لمنع هذه الشخصيات من المشاركة في الإنتخابات.. فهاهو محافظ بغداد يتقدم قبل أيام مجموعة من المتظاهرين شحنتهم وإستنفرتهم أحزاب الإسلام السياسي كحزبه المناضل وخطت لهم لافتاتهم وطبعت لهم شعاراتهم التي رفعوها يوعِد ويَتوَعّد بطَرد جميع البعثيين من دوائر العاصمة ولاندري مادخل هذا الموضوع بقضية المرشحين الذين شملهم الإجتثاث وبعدم السماح بمشاركتهم في الإنتخابات ثم أين كان السيد المحافظ من هؤلاء الموظفين طوال الفترة السابقة ولماذا لم يَجتثّهم منذ تسَلّمِه لمهامه محافظاً لبغداد وما ذَنب عوائلهم التي ستنهض يوماً لتجد مُعيلها وقد طُرد من وظيفته بسبب قرار إرتجالي إتّخذ في نوبة هيستيرية لمسؤول غير مناسب وضِع في المكان المناسب أليس هذا حرقاً للأخضر بسعر اليابس كما يقول المثل العراقي هذا إن كان هنالك يابس أصلاً في هذه القضية!.. أهكذا يَتصرّف المؤمنون يا محافظ بغداد التقي الوَرع الصائِم المُصلّي؟.. لاندري ما الخطوات التالية التي قد تفاجئنا بها هذه الأحزاب ورجالها المُنتشرين كالنار بالهشيم في دوائر الدولة العراقية وبماذا ستطالب بقادم الأيام إذا وافقت المحكمة الإتحادية التي إستأنف المجتثون لديها على مشاركتهم بالإنتخابات فهل ستطالب بإجتثاث المحكمة الإتحادية كما طالبت بإجتثاث السفير الأمريكي وباتريوس وجوزيف بايدن الذي بدأت تصفه بالبعثي وفق مُصطلح(بعث بايدن)خصوصاً أنها قد بدأت قبل أيام حملة عشوائية لإجتثاث مَن تَصِفهم بالبعثيين من أغلب دوائر المحافظات التي يُسيطر رجال أحزابها وميليشياتها على مجالسها البلدية ويبدوا أنها لن تستثني من هذا الإجتثاث سوى خرافها وإمّعاتها وطبولها الخاوية سوى من الهراء والجعجعة الإعلامية الفارغة المَمجوجة فالمُهم بالنسبة لها بقائها وبقاء المنافقين المنتفعين من بقائها بالسلطة يَسرحون ويَمرحون ويَسرقون قوت الشعب وثروات البلاد كما فعلوا منذ يوم تسلمهم للسلطة بعد 2003 وكما يفعلون اليوم وكما سيفعلون الى أبد الآبدين إذا حدث ما يريدون وبقوا على رأس السلطة في العراق بعد الإنتخابات القادمة لاسمح الله.
إن ما يحدث هذه الأيام بدأ يثير الشكوك حول مدى نزاهة الإنتخابات القادمة خصوصاً إذا بقيت هذه القوى والأحزاب مسيطرة على أجهزة الدولة ومؤسساتها ومراكز صنع القرار فيها كما هو الحال الآن دون أن ننسى طبعاً ميليشياتها ومجاميعها الخاصة التي تعيش اليوم حالة سُبات ستخرج منها حال صدور الأمر لها بذلك من سادتها بالداخل والخارج والتي ستُرهِب وتُرعب المواطنين وتُرغِمهم على إنتخاب هذه القوى في حال فشلت أساليب إستخدام السلطة والإلتفاف على القانون وإستغلاله التي تستخدمها اليوم.. فالهدف الذي لن تتوقف هذه القوى والأحزاب لحين تحقيقه بغض النظر عن الطريقة وبأي شكل من الأشكال هو إزاحة أكبر عدد مِن الشخصيات والتيارات الوطنية الليبرالية العلمانية المنافسة من الساحة وبقائها لها ولفِكرها الظلامي الرجعي وخطابها الطائفي الذي عادت تعزف على أوتاره الآن مُستغلة شخصيات دينية بريئة منها محاوِلة إعادة إحياء النزعات الطائفية لدى بعض شرائح المجتمع الجاهلة ومُهَدِّدة بإغراق العراق ببَحر جديد من الدماء كذلك الذي أغرقته فيه عام 2005 لن يتحمله هذه المرة وسوف يقضي لاسمح الله في حال حدوثه على آخر ما تبقى من شيء إسمه العراق.
[email protected]
التعليقات