حققت دولة إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 انجازات ضخمة قد تفوق ما كان متوقعا من طرف الزعماء الصهاينة أنفسهم، أشهرها الانتصارات العسكرية المتتالية التي فرضت على أعدائها الحل السلمي بالقوة، رغم كل ما يقال عن الظرف الحالي و عدم وجود السلم الشامل و الدائم في المنطقة.
توازى هذا النجاح العسكري مع النجاح السياسي بقيام نظام ديمقراطي في نطاق تعددية سياسية ضمنت التداول السلمي للسلطة، بدليل انه لم يحصل انقلاب عسكري واحد خلال العقود الستة الماضية على إنشاء الدولة، و لم تتعطل آلية الانتخابات مرة واحدة رغم حالة العداء و الحرب التي مرت بها.
لكن رغم كل هذه المنجزات ndash; التي يمكن اعتبارها معجزات إلى حد كبير- لم تتمكن إسرائيل من حمل لقب quot;النمر الاقتصاديquot; الذي بقي إلى الآن حكرا على بعض الدول الآسيوية، و بقيت نسبة النمو الاقتصادي السنوي على المدى الطويل في إسرائيل اقل بكثير من نسبة الــ 7% التي اشتهرت بها النمور الآسيوية. و قد يعود هذا أساسا للبيروقراطية الخانقة التي تحكمت في دواليب إدارة الاقتصاد الإسرائيلي الذي تأسس على يد حزب العمل الاشتراكي النزعة.
لعل الاستثناء الهام في هذا المجال هو الريادة في مجال شركات الأعمال الجديدة أو ما يسمى quot;Start-up companiesquot; كما جاء في كتاب جديد يحمل عنوان: quot;Start-up Nationquot; و كان عنوانه الجانبي quot;قصة المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية.quot; و هو كتاب يوثق لهذه الظاهرة الاقتصادية الفريدة، إذ ثبت أن معدل الفرد من استثمارات شركات رأس المال المغامر quot;Venture Capitalquot; تفوق في إسرائيل المستوى الأمريكي مرتين و نصف، و تساوي 30 مرة المعدل الأوروبي! كما أن الشركات الإسرائيلية المدرجة في سوق quot;نازداكquot; المالي في نيويورك تفوق عدد شركات أية دولة أخرى باستثناء أمريكا. و سجلت الشركات الإسرائيلية في الفترة 1980-2000 أكثر من 7 آلاف براءة اختراع في أمريكا مقابل 77 براءة اختراع سجلتها الشركات المصرية!
كيف استطاعت إسرائيل أن تنفرد بهذه المعجزة؟ يتفق مؤلفو الكتاب على ثالوث: (1) سياسي إصلاحي على رأس الحكومة عام 2003 (بنيامين ناتانياهو)، (2) مركز أبحاث ساعد على بلورة نموذج الإصلاح الاقتصادي المطلوب، ممثلا في مركز التقدم الاجتماعي و الاقتصادي في تل أبيب، برئاسة quot;Arthur Seldonquot; احد مؤسسي معهد الشؤون الاقتصادية بلندن الذي لعب دورا أساسيا في إعداد البرنامج الاقتصادي لحكومة تاتشر، و (3) وجود فريق تكنوقراط على مستوى عال من الخبرة، ممثلا في محافظ إسرائيل المركزي، البروفيسور ستانلي فيشر، الأستاذ السابق بمعهد ماساشيوتس للتكنولوجيا، الذي تكون على يديه محافظ الاحتياط الفيدرالي الأمريكي الحالي quot;بين برنا نكي.quot;
يشير الكتاب إلى ملاحظة إضافية هامة و هي قبول إفلاس الشركات التي لا تنجح في امتحان السوق، و توفير الإطار القانوني الملائم لذلك، حيث أثبتت الدراسات العلمية أن رجال الأعمال المبتدئين الذين يفشلون في مشروعهم الأول تكون لهم حظوظ أوفر للنجاح في المستقبل.
خلاصة القول، الدول العربية اليوم هي في أمس الحاجة إلى حكومات إصلاحية جادة و مراكز أبحاث تنير الرأي العام و فريق اقتصادي من التكنوقراط المشهود لهم بالخبرة، بالإضافة إلى قانون إفلاس يحمي الشركات من دائنيها عند الضرورة و نظام قضائي يسرع في حل نزاعات الشركات. و ما لم يحصل هذا ستبقى هذه الدول تعاني من دوامة الإصلاحات غير المكتملة و النمو الاقتصادي الضعيف، في ظل بطالة مرتفعة.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]