لو ظهر محمد البرادعي الرئيس السابق لوكالة الطاقة الذرية في ظل ظروف سياسية صحية تشهدها مصر، لما خطر ببال أحد أن يرشحه للعب دور سياسي من أي نوع، فلم يعرف عن الرجل من قبل الاهتمام بشئون السياسة الداخلية، ولم يفكر في الانخراط في العمل العام داخل البلاد، ولم يلتحق بأي حزب أو حركة أو حتى يكتب مقالاً يعبر فيه عن رأيه في ما يجري في ربوع مصر المحروسة، بل انحصرت خبراته وتراثه الشخصي في العمل القانوني، وأؤكد القانوني وليس السياسي لدى المنظمات الدولية، كما اقتصرت مؤهلاته على نقاء سيرته وسريرته مما يلوث سمعة معظم اللاعبين المحترفين على الساحة المصرية.
لكن يثور هنا سؤال مشروع عما إذا كانت هذه مؤهلات كافية لرئاسة مصر؟، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خيار عاطفي وربما لا يخلو من قد قدر من الانتهازية، خاصة من قبل نخبة مأزومة تسعى لتوريط الرجل في منافسة لا يملك أبسط أدواتها، وليس مؤهلاً لها، فالرجل يقتحم الساحة السياسية للمرة الأولى وهو في العقد السابع من عمره، ليتحول بهذا إلى مجرد quot;درع بشريquot; لمحترفي النضال الفضائي والخطب الشعاراتية الزاعقة، باعتباره محصناً ضد التنكيل أو الاعتقال لاعتبارات كثيرة تتعلق بوضعه الدولي الرفيع
في المقابل طفح الكيل بالشارع المصري من فرط استمرار حالة تكلس النظام وشيخوخته التي ضربت المناخ العام حتى أوشكت أن تبدد أي أمل في التغيير السلمي، لهذا دعونا نعترف بأننا أصبحنا في مصر كالغريق الذي يتعلق بأي قشة، وأن النظام وحزبه الحاكم يتعامل مع الأمر بنظرية quot;ودن من طين وأخرى من عجينquot;، فلا يلقي بالا لهذا الحراك، بل يتصرف باستعلاء شأن كافة الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر، وإن تميز عنها بـquot;جهاز عصبيquot; نادر، يصعب استفزازه أو إحراجه، أو حتى دفعه للتعليق، ليس فقط على مدى جدية سيناريو منافسة البرادعي على عرش مصر، بل ـ ولعل هذا هو الأهم ـ على دلالات ومعاني كل الشوق الشعبي الجارف للتغيير، بغض النظر عن كون quot;خيار البرادعيquot; أمراً عملياً يمكن تحقيقه على أرض الواقع المسكون بإرهاصات التغيير بعد أن ضرب الناس اليأس من التذرع بالاستقرار.
إصرار quot;سدنة الحكمquot; على التزام الصمت الرهيب جعلنا إزاء حالة بالغة الغرابة والسيولة، بين حلم مستحيل تتبناه quot;معارضة جديدةquot; تضم آلاف الحالمين بالتغيير، لكن تقودهم شخصيات ينبغي على البرادعي نفسه أن يتوقف بتأنٍ أمام سلوك بعضهم، ممن دأبوا على استثمار الحراك الشعبي لدفع الجماهير صوب الاتجاه الخطأ، بالاحتقان والمشاعر غير الرشيدة والحسابات الخاطئة، لينتهي الأمر على النحو الذي أصاب حركة quot;كفايةquot; التي دخلت نفق الصراعات الشخصية والفئوية، بعد أن اختطفتها قوى راديكالية معادية للحريات العامة وتصطدم بالواقع الإقليمي والدولي، سواء الدينية كالإخوان المسلمين أو فلول الفاشيست القومجية، ممن جربت الأمة حكمهم عقوداً، ولم تحصد من ورائهم سوى النكبات والنكسات والاعتقالات والاستبداد.
وهكذا وضعت quot;ظاهرة البرادعيquot; جميع الأطراف في مصر في مأزق حقيقي، وكأننا أصبحنا حيال quot;مصرينquot; وليس بلداً واحداً، يتمثل في ذلك الاستعلاء الحكومي المعتاد من جهة، ومن جهة أخرى ذلك الاستقبال الجماهيري الحاشد quot;لفارس الأحلامquot; بعد إحالته على التقاعد، مروراً بسلسلة المقابلات التي أجرتها معه وسائل الإعلام المصرية الخاصة، وصولاً إلى إعلان تأسيس ما أطلقوا عليه quot;الجماعة الوطنية المصريةquot;.
وهذه التسمية في حد ذاتها لا تخلو من شبهة الاختطاف، الأمر الذي لا يختلف كثيراً عما يمارسه quot;الإخوان المسلمونquot;، فكما اختطف هؤلاء الإسلام واحتكروه لجماعتهم، هاهي quot;جمعية المنتفعين بالبرادعيquot; تختطف الوطن والوطنية، لتستأثر باقتناص صفة quot;الجماعة الوطنيةquot;، مع أن هذه تعد حقاً طبيعياً لكل من يحملون الجنسية المصرية، ولا يصح لجماعة من المصريين أن تحتكرها لذاتها، مهما كانت صفة أعضائها.
في الجانب الآخر من هذه الصورة يقف كهنة الحكم أحد موقفين: فإما التعامل مع الرجل والظاهرة بثقافة quot;الردحquot;، وquot;فرش الملايةquot;، وهذه بالطبع لغة متدنية لا تليق بالأمم والمجتمعات المتحضرة، أو أن يلتزموا الصمت مفضلين التجاهل لكل ما يجري من حراك، وquot;كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ.. ولم يسمر بمكة سامرquot;، كما قال الشاعر العربي قديماً.
أخيراً لنعترف أن لغة البرادعي البسيطة وانتقاده المحسوب للنظام، هي أمور جعلته يبدو مقبولاً لدى الشارع المصري، خاصة حين دعا لنظام سياسي جديد يسعى لترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، لكن هذه الآمال الجميلة يمكن أن نسمعها من أي طالب جامعي أو شاب في مقتبل حياته، فالنوايا الطيبة ليست كافية لقيادة بلد كبير يمر بظروف بالغة التعقيد كمصر، فهذه المؤهلات ربما تصلح لإدارة منظمة دولية أو مؤسسة اجتماعية، لكنها بالتأكيد لا تزكي الرجل لرئاسة مصر خاصة في المناخ الراهن.
المؤسف أن البرادعي ابتلع quot;الطُعمquot; وليته تعلم من أحمد زويل وعمرو موسى اللذين تنبها لهذا الفخ، ولم يسمحا لباعة الأوهام وتجار الاحتقانات باستغلال اسميهما في مغامرات لايصّح للعاقل أن يختتم بها حياته.
[email protected]