كل صباح باكر ُيبكر العم محمود مزعل (أبوحسن ) الى زاويته بجوار صيدلية ( كاكا) في شارع الرشيد ببغداد ليبيع الصحف والمجلات،وفي كل يوم يأتي يهودي عراقي اسمه ساسون لشراء صحيفة من الصحف الصادرة أنذاك في بداية اربعينيات القرن الماضي لشراء صحيفة ما بخمسة فلوس، وطالما حسد ابو حسن القراء الذين يشترون الصحف منه، فهو يعرف الكثير، لكنه لايقرأها فهو لايكتب ولا يقرأ، حتى أن قرر في يوم ما أن يطلب من زبونه الدائم ساسون أن يمنحه كل يوم جريدة (بلاش ) مجانا ً مقابل أن يعلمه مافيها من الرموز والحكايات، وهكذا تعلم العم ابو حسن فك الخط وكتابة الرسم والحروف واستمر بقراءة الكتب والصحف التي يبيعها،وحين شعر أنه تمكن من ذلك أجبر زوجته أم الأولاد على تعلم القراءة والكتابة، لكنه بدأ معها بطريقة تختلف عن طريقته، فقد اخذ بتعليمها أولا ً أرقام الباصات التي تنقل الركاب من حي دراغ في المنصور الى شارع الرشيد،ثم كيف تعتمد على نفسها في الوصول الى مكتبته بـ(لسرفطاس ) الذي يحوي الغداء اليومي، ولم يكتف ابو حسن بذلك بل علّم جميع اولاده وأجبرهم على دخول المدارس والجامعات وبتفوق،مستخدما اسلوبا مبتكرا هو العقاب والثواب للطفل المتردد أو الكسول بين الأولاد والبنات، توفي العم والجد ابو حسن قبل ثلاثة اعوام عن عمر ناهز 96 عاما،ولديه احفادا وابناء وبنات جميعهم متعلمون ويطمحون الى التعليم،تقول ابنته التي تعيش الأن في اميركا، ابني يدرس ويتعلم هنا ليصبح كما يرغب أن يكون، لكنه اختار ان يكون طبيبا ً...!!.

يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقدمة كتابه الشهير THE WORLD IS FLAT (حين كنت صغيرا ً،كان أبي يقول عليك بتناول عشائك،فهناك في الصين والهند أطفال بعمرك ليس لديهم شيئا ً يأكلونه،الأن أقول لأبنتي الصغيرة عليك بإنهاء واجبك البيتي قبل النوم،فهناك في الصين والهند من ينتظر الحصول على وظيفتك في المستقبل).

ومن خلال هذا التوضيح يلخص الكاتب الذكي توماس فريدمان عنوان كتابه،فالعالم الأن متصل تكنولوجيا ً وقد سقطت الحدود أمام إبداع البشر،وقدراتهم الفائقة في الاختراع، وباتت الوظائف متاحة للجميع بغض النظر عن المواطنة ونوع الجواز تحت مظلة تكنولوجيا العولمةأو العكس،وهذا هو التعليم الذي يستثمر الطاقة البشرية في ابداع الحضارة المشتركة التي هي مسعى بني البشر منذ فجر التاريخ،التعليم الذي ينتج علماء ً حقيقيين،التعليم الذي ينتج ادوية واجهزة لخدمة الإنسان وصيرورته وتحسن أحواله وظروفه وبيئته، التعليم الذي جعل العالم كلّه عبارة عن محلة واحدة وليست قرية.

قبل اسابيع شاهدت فيلما ً وثائقيا ً عن أطفال عراقيين وامهاتم وهم يعملون في جرّ الحمير وتحميل الطابوق وسط الغبار والسموم والتلوث بدشاديشهم البالية القذرة ووجوهم التي غادرتها زهرة الطفولة،و لي حرية وصف المشهد المأساوي المدهش الذي يفتقد للأدمية بتوصيفه على أنه quot;مشهد بربري quot;، الأطفال يضحكون وامهاتم كذلك،فهم يحصلون على خمس دولارات في اليوم الواحد!!!

ثم في النهاية(الفيلم ) اكد احد الموظفين الإجتماعيين!! ان هؤلاء الأطفال هم قد اختاروا العمل في هذا المكان وتركوا مدارسهم وتعليمهم ولم يتم اجبارهم على العمل !! والحكومة لاتستطع فعل اي شيء،وحين سمعت اسم الحكومة والاطفال، قارنت بين أطفالي وحكومتهم الأسترالية وأولئك الأطفال الذين تفتقد حكومتهم للضمير والإنسانية ومجتمعهم خال ٍ من الرحمة والشفقة والتكافل، هؤلاء جزء من الذخيرة المستقبلية لبلد غني في كل شيء،فماذا سوف يكونون بعد عقد من الزمان؟؟،كما أن لديهم أقرانا ً يتعلمون لكن أين؟؟ في الحوزات أو التكيات الدينية،وأيضا وبعد عقد من الزمان سنحصل على حراس صارمين فولاذيين للمتحجرات التقليدية، لا عقل لهم سوى الحلال والحرام وهل قرص البعوضة يفسد الصلاة؟؟وهل يجوز مصافحة الذميّ وماهي النجاسة والحيض ونوعية الوقوف والتكتف في الصلاة...الخ هكذا اضافة الى تعذيب النفوس وحبس النساء والكراهية اللاهبة والعنصرية والتعالي الفارغ.

ومن المفجع والمؤسف له ان يدعي ابناء بلد مثل العراق بشهادات علمية غير واقعية كما هو حاصل حاليا فالجميع لديهم شهادات دكتوراه وماجستير في كل شيء، لكن الشهادات في الواقع لم تنتج شيئا واحدا مفيدا، فحتى العلماء والمتعلمين الحقيقين تركوا مضاميرهم وحقول المعرفة الواسعة لكي يشتغلوا في السياسة،والسياسة العراقية لاتعتمد القيم الإنسانية في التعامل فأما العنف أو التسقيط أو المحاصصات كما هاو جاري، وهذه مصيبة كبرى، فحين يذهب هؤلاء(الذين ضحوا بمهنيتهم العلمية من أجل الوطن ) سيرثوهم متعلمون اخرون لمنهم مزيفون، متعلمون واقعيا ً والحقيقة هي أميون بإمتياز، فالطبيب الذي يترك الطب وعلاج الناس،لكي يتزعم ميليشيا أو حزب أو حكومة فاسدة، لايمكن رصفه مع المتعلمين، فالمتعلم يحترم ويعتز بتعليمه ويتباهى به.. فإنقاذ حياة إنسان في معايير القيم الإنسانية هي أعلى قيمة من الترشيح لمجلس النواب أو مجلس محافظة او ترأس خلية مسلحة ونحن نمضغ العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أليس كذلك؟؟؟؟