لو سألت أي كردي على وجه الخليقة عن أحب أيام السنة إلى قلبه، أكاد أجزم بأنه لن يتردّد في القول بأنه يوم الحادي والعشرين من شهر آذار. ليس فقط لأنه يمثل رأس السنة الكردية الجديدة؛ بل أيضاً بسبب المعاني الأخرى العديدة التي يمثلها هذا اليوم بالنسبة للشعب الكردي، والذي أنا واحد من أبنائه، وكذلك الذكريات التي يحملها وإن كان جلّها حزينة ومؤلمة! عيد نوروز، الذي يعني quot;اليوم الجديدquot; بلغة الضاد، ويصادف الحادي والعشرين من آذار، هو عيد قومي كردي، يحتفل به الأكراد في جميع أنحاء العالم. يكاد يكون الشيء الوحيد الذي لم يتخل عنه الأكراد أبداً،حتى في أكثر الإيام العصيبة التي مرّوا بها. الناظر إلى المشهد الكردي في عيد نوروز يخال بأن الأكراد هم أسعد من خلقهم الله على وجه المعمورة. ربما هو الأمل الذي يحدوهم في الخلاص من عذاباتهم، وبدء حياة جديدة خالية من الظلم والحرمان، قائمة على المحبة والتسامح، وغيرها من المعاني الإنسانية السامية، لاسيما وأنه في الحادي والعشرين ينتصر النور على الظلام، أي أن الخير ينتصر على الشر، حسب المعتقدات القديمة عند السومريين، وأجداد الأكراد (الميديين)، ففي هذا اليوم يطول النهار على حساب الليل، وتخلع الطبيعة أثوابها القديمة، الرّثة، وتبدّلها بكل جديدها من هبات وعطايا الأرض عليها، إنه قدوم فصل الربيع، فصل الخير والعطاء والنماء، بعد أشهر من الشتاء الموحش، حيث البرد القارس والثلوج الكثيفة، وكل ذلك حسب المعتقد القديم.

في العصر الحديث، وبعد أن اتخذ العيد طابعاً وبعداً قومياً لدى الشعب الكردي، جرت محاولات عديدة لمنع الأكراد من إحياء احتفالات النوروز، إضافة إلى محاولات أخرى قامت بها الدول المهيمنة على كردستان لتزوير التاريخ ونسب العيد إلى قدمائها، وإظهار أحقيتها بتوريث هذا العيد. ففي تركيا مثلاً، أتذكر كيف كان التلفزيون التركي ينقل مشاهد تُظهر (مسعود يلماز) نائب رئيس الوزراء التركي الأسبق يقفز فوق نيران نوروز (عادة ما توقد النار في عيد نوروز لتجسيد معانيه حيث إن النار عند قدماء الأكراد كان رمزاً للانتصار والخلاص من الظلم والاضطهاد) لا لشيء، وليس حباً في العيد؛ فقط لكي يقول للعالم بأن النوروز ليس خاصاً بالأكراد، وبأن الأتراك أيضاً يحتفلون به. طبعاً هو أقدم على تلك الخطوة الاستعراضية بعد فشل كافة جهود الدولة التركية في ثني الأكراد عن إحياء احتفالات نوروز. وفي هذا السياق، أجدّني مضطراً للتذكير بحادثة إضرام المناضل الكردي الثوري (مظلوم دوغان) النيران بجسده وهو قابع داخل أحد أسوء السجون التركية بمدينة quot;آمدquot;، في العام 1982، مع مجموعة من رفاقه من الرعيل الأول لحزب العمال الكردستاني؛ لإحياء عيد نوروز، والتأكيد على البعد القومي الذي يمثله العيد بالنسبة للشعب الكردي، كما أن عمليته تلك كانت تجسيداً لإرادة التحدي وquot;مقاومة السجونquot; التي كان قد أعلنها شعاراً مع رفاقه داخل الزنازين، حيث كانوا يتعرضون إلى أقسى أنواع وصنوف التعذيب الجسدي والنفسي. وهناك أمثلة أخرى عديدة في تركيا، وكذلك في سوريا وإيران، والعراق على عهد النظام البائد، توضح جميعها وتكشف مدى قسوة أنظمة هذه الدول على الشعب الكردي لمنعه من الاستمتاع بعيده، والاحتفال به على طريقته وكما يروق له، ووفقاً للعادات والتقاليد التي ورثها عن أجداده منذ آلاف السنين.

آخر المحاولات لإسقاط حق الشعب الكردي في عيده القومي هذا، كانت بمصادقة الأمم المتحدة على دولية احتفالات عيد نوروز، بمعنى آخر اعتبار العيد مناسبة دولية، وهو أمر يبدو جيداً للوهلة الأولى، وكان طبيعياً أن يلاقي استحساناً وترحيباً كبيرين من قبل الشعب الكردي، وساسته ومثقفيه الذين لم يطّلعوا بشكل جيد على مشروع القرار الذي قدّم للأم المتحدة بهذا الصدد، وصادقت عليه، والذي يقرّ كذلك بإيرانية عيد نوروز!. حسب وسائل الإعلام الإيرانية فإن مشروع القرار الذي قدّم إلى الأمم المتحدة أُعدّ من قبل كل من quot;إيران، تركيا، آذربايجان، أفغانستان، طاجيكستان، تركمنستان،كازاخستان وقرقيزستانquot;. لا أشك البتة في أن مشروع القرار أعدّ من قبل إيران وتركيا حصرياً، وبأن الدول الأخرى التي ورد ذكرها، والمغلوبة على أمرها؛ ليست إلا للتغطية على النوايا السيئة المبيتة في عرض مثل هذا المشروع على الأمم المتحدة، وأولها إسقاط حق الشعب الكردي، وكما ذكرنا، في هذا العيد. هذه الخطوة تأتي في إطار المحاولات المستمرة من قبل الدولتين المذكورتين، تركيا وإيران، وكذلك سوريا والعراق السابق؛ من أجل محو الإرث الثقافي والتاريخي للشعب الكردي. فإذا كان الفرس، وعدد من الشعوب الأخرى، يحتفلون هم أيضاً بعيد نوروز منذ زمن، وهو ما لا ننكره أبداً، فما علاقة الأتراك بمثل هكذا مشروع قرار وهم الوافدون والمستجدون في منطقة كان سكانها يحتفلون بهذا العيد قبل مجيىء الأتراك بآلاف السنين؟ ألا يبدو جلياً بأن طرح المشروع أمام الأمم المتحدة في غياب الأكراد، ودون أخذ موافقتهم ومشاورتهم، سرقة للثقافة والتراث الكرديين في وضح النهار؟

ماذا عن الجذور التاريخية لعيد نوروز؟

تختلف وتتضارب الروايات حول البدايات الأولى للاحتفال بعيد النوروز، وأول شعب احتفل به، وكذلك الحدث أو المعتقد خلف ظهوره، لكن ليس هناك أي جدل حول توغل هذا العيد في القدم، وهو ما تؤكده جميع الدراسات والبحوث التاريخية. هناك رواية تقول بأن أصل العيد يرتبط باحتفالات quot;السرصالquot; لدى الشعوب السومرية، واحتفالات السرصال هذه كانت تبدأ من الحادي والعشرين من شهر آذار حتى نهاية شهر نيسان. حيث كان السومريون يعتبرون يوم الحادي والعشرين من آذار انتصاراً للنور على الظلام، باعتبار أن يوم العشرين من آذار يتساوى فيه الليل مع النهار، ليطول النهار على حساب الليل في اليوم التالي. وهناك رواية أخرى، أقرب ما تكون إلى الأسطورة، وقد درج تسميتها، بين الشعب الكردي، بـ (أسطورة كاوا الحداد)، وتقول الرواية، أو الأسطورة، بأن كاوا الحداد كان كردياً من عامة الناس وقد تمكن من قتل أحد الملوك المتجبرين في ذلك الوقت، واسمه quot;أزدهاكquot;، الذي تصفه الرواية، أيضاً، بأنه كان ظالماً وجائراً، شديد القسوة والبطش بالناس. وتذهب الرواية إلى أن عيد نوروز جاء احتفالاً بقتل الطاغية، وإيذاناً ببدء عهد جديد. وكاوا الحداد لا يزال، حتى يومنا هذا، رمزاً للبطولة والشموخ، ويضرب به المثل بين الشعب الكردي. غير أن هناك من الباحثين من يدحض هذه الرواية، ومنهم مجيد عبد الله الشمس الذي يقول بأن quot;كاوا الحدادquot; ما يزال موجوداً في ذهنية الناس، كحقيقة، رغم أنه لا وجود له في الواقع. ويضيف بأنه ليس على الكرد الافتخار به؛ لأنه حسب الرواية الدارجة يكون سبباً في انهيار الإمبراطورية الميدية (الكردية). أما أزدهاك فهو شخصية حقيقية، وكتب بعض المؤرخين الى أنه لا وجود في التارخ لملك مثيل لأزدهاك كان يحب الناس ويجانبهم. وحسب المؤرخين فإن quot;أزدهاكquot; سقط على يد الملك الفارسي quot;كورشquot; في العام 550 قبل الميلاد، وليس 700 قبل الميلاد، وبسقوطه انهارت الإمبراطورية الميدية، ولم يكن ذلك بيد quot;كاواquot;.

يقول الدكتور مولود إبراهيم حسن: quot;النوروز هو أول أيام العام الكردي، ويصادف 21 من شهر آذار الميلادي. والعام 2009 الميلادي يصادف العام 2709 الكردي. وتاريخ 1 من شهر نوروز الكردي، هو تاريخ يعود إلى العصر الميدي، ويعود التاريخ الميدي بحسب بعض المصادر التاريخية، الى الألفية الرابعة قبل الميلاد، وفي ذلك التاريخ كان للميديين حوادث تاريخية كثيرة، وعدا الميديين هناك قوميات أخرى لها علاقات مع الأصل الكرديquot;. ويقول بعض المؤرخين بأن مؤسس الإمبراطورية الميدية (دايوكي) أو (داهيوكا) حسب الأختام الأسطوانية والألواح الفخارية، جعل سقوط نينوى في العام 612 ق.م. في 21 آذار؛ ليتوافق هذا الحدث الجلل مع انتصار النور على الظلام، أي مع عيد نوروز. وإذا ما علمنا بأن المديين هم أجداد الأكراد، حسب معظم البحوث والدراسات التي تحظى بثقة عالية لدى غالبية المؤرخين؛ فيتحتم علينا أن نقرّ بكردية عيد نوروز.

خلاصة القول: إن نوروز هو عيد كردي، والشعب الكردي هو أحق الشعوب بهذا العيد، وهو نفس ما ينتهي إليه الدكتور حسن في نهاية بحثه، الذي أوردنا مقتطفاً منه في الفقرة السابقة، والذي يحمل عنوان quot;حقائق حول عيد نوروز.. عيد أي شعب؟quot;. إذ يقول حسن بأنه ورغم أن العديد من الشعوب تحتفل بهذا العيد، وتقيم له مراسيم مختلفة، إلا أن عيد نوروز اليوم، أو راهناً، هو عيد كردي قومي، والشعب الكردي هو الصاحب الأوحد له.

[email protected]