لا أود في هذه المقالة مناقشة الأحكام التي أطلقها كاتب مقال (إنهيار الأتحاد الوطني الكردستاني و المشروع البديل )، المدعو جمال عبدالكريم، بحق الأتحاد، و لا أرى أي ضرورة في نقد منطق الذي يجبر نفسه على أستخدام ترسانة من الكلمات غير المُفكر فيها لغايات آيديولوجية و سياسية بحتة مآلها الأول و الأخير تشويه الحقائق من خلال سرد الأحداث و المواقف بما تتلائم مع المرامي المرجوة سلفاً.


بعبارة أخرى، أن مبدأ الحوار يستدعي دوماً جرد الذات من الإنفعالات السياسية المتهورة تسهيلاً لظهور العقل و فاعليته و وبالتالي إنتاج الموضوعية كإدراك ذاتي لما هو معطى الواقع و تعيينه في نظام الرؤية و العبارة، أي الإشتغال الشاق على رؤية و قراءة الوقائع في أبعادها و صورها أو تجلياتها و تمظهراتها المختلفة و ليس في زوايا ما دون غيرها أو وجوه معينة دون سواها، و ما الوعي المزيف أو عملية تزييف الوعي سوى إفتقار نظام الإدراك الذاتي في تغطيته لما هو معطى و ما هو موجود و ترصيده في شبكة الرؤية عند الإنسان.


أكتب هذا التمهيد البسيط لأقول للمدعو quot; جمال عبدالكريم quot; أن الحديث عن إنهيار الإتحاد الوطني الكردستاني أو حتى توقع أمر كهذا مرتبط أساساً بخطاب حركة سياسية بأسم حركة التغيير، الذي ظهر لنا من خلال دراسة الصورة العامة لمواقف قياداتها و أجهزتها الإعلامية، أنها، للأسف، تُشغل ذاتها، بل مجمل طاقاتها السياسية في التعلق العقيم بأفكار شبه ثورية و مفردات سياسية راديكالية لم تعد لها مكانة حقيقية في قاموس العمل السياسي الديمقراطي المعاصر و لا في المنطق المؤمن بالإصلاح و التغيير التدريجي، و إنما هي في أحسن الأحوال باتت ترسانة فاسدة للعقل و العمل معاً، بل لا تنتج في مآلها الأخيرسوى العنف و العنف الرمزي، و ذلك ربما لسبب بسيط جداً، هو أنه كلما يخفق العقل الثوري التقليدي في تقديراته أو تحقيق توقعاته أو أوهامه يثورغضباً بحيث ينعكس موقفه المتشنج هذا على الفعل و الممارسة و بالتالي يدفعه أخيراً الى التشبث بأستخدام العنف إن كان ذلك عنفاً فيزيقياً أو رمزياً. و لا مراء بأن توقع إنهار أو سقوط أحزاب سياسية ذات جذور و علاقات معقدة،على ما قرأناه في مقال جمال عبدالكريم ليس إلا تعبيراً حقيقياً عن نموذج حي من نماذج إختزال هذا العقل الثوري لحقائق و وقائع غير قابلة للتبسيط و التقييم الإرتجالي، عنيت هنا مثال حقيقة و واقع الأتحاد الوطني الكردستاني.


أولاً: علينا أن نفهم أن لا فائز أو خاسر عادةً في الإنتخابات التي تجري في البلدان لتجديد التمثيل أو النظام السياسي، و ذلك لأمر بسيط، هو أن الإنتخابات أساساً ليست عملية إنقلابية لسطوة قوة سياسية الى الأبد كما هو الحال مع الأنظمة الدكتاتورية، و أنما هي، بكل بساطة، لعبة سياسية تتحكم بها لغة النسَب و الأرقام.


بعبارة أخرى، أن الخاسر عادةً ينسب لمن لا أمل له في أستئناف اللعبة ثانية بل يغيب عنها ليحل محله الآخرين، أما المُخفق فهو من يُجرب حضه في لعبة ما دون أن يحصل على النتائج المرجوة. و لاشك أن لعبة الديمقراطية التي تُجسد نفسها، في وجه من وجوهها في الإنتخابات، هي كحلبة المنازلة التي عادةً فيها من يُخفق في شوط من أشواطها و فيها من يحرز التقدم في جولة من جولاتها، و ربما مفهومي الإخفاق أو التقدم للتعبير عن موقع و واقع المنخرطين في لعبة الإنتخابات هما اليوم من أعقل و أفضل المفاهم العقلانية التي تعبر عن روح النتائج الدورية للإنتخابات، و عليه من السخف طبعاً القول أن الحركة الفلانية فازت في هذه اللعبة و الأخرى أنهزمت أو أنهارت، و لا معنى أصلاً لأستخدام مثل هذه المفردات التي هي ليست سوى مفردات مُبسطة لا تتعدى حدود قواميس صحفية في التعيين و التقويم بل أسوأ من ذلك هو أنها ربما من سليل مفردات تابعة لعقلية مُقصية و أستبعادية تعتقد أن الديمقراطية و طقوسها هي تتجسد وحسب في اليوم و في الآن، أما الآتي و المقبل فهو فراغ تاريخي لايعني شيئاً!، أي إفراغ مفهم الديمقراطية و التاريخ معاً من حقيقتهما، هذا في الوقت الذي حتى الجاهل يفهم اليوم أن الإنتخابات، كمظهر من مظاهر الحياة الديمقراطية، هي ديمومة سياسية و عملية دورية و مُقننة بسقف زمني، و ذلك منعاً منها، و هذا من محاسن نظام الديمقراطية، لأي تَسَلُط، أو البقاء في السلطة بعيداً عن إرادة الناخب و الشعب.


المشكلة مع هذا الكاتب هو أنه واقع في تبسيطات سياسية و أختزال واقع الإنتخابات أيضاً و ليس واقع حال الأتحاد و حركته السياسية ( التغيير) فقط، أنه لا يرى حتى الأرقام و الوقائع بينما يحكم على المجريات. الواقع هو أن الإتحاد الوطني الكردستاني لم يَخسر لا في الإنتخابات التي أجريت في 25من تموز يوليو الماضي و لا في الإنتخابات العراقية الأخيرة، و هذا ليس بحسب مفهومنا النقدي هنا لمفهوم الخاسر و الفائز فحسب و انما بلغة الأرقام و نسبة أصوات الناخبين الذين صوتوا لصالحه ايضاً، و التي تؤكد لنا أن الأتحاد، بدأ فعلاً يستعيد جزء من عافيته الجماهيرية بل هو من حيث حصوله على المقاعد البرلمانية ربما يتقدم بفارق ملحوظ عن حركة التغيير بل ربما بضعف المقاعد التي تحصل عليها الحركة..


من جهة أخرى، نحن نعلم أن الإتحاد دخل كبقية الأحزاب و التيارات السياسية الأخرى في لعبة الإنتخابات، و ذلك رغم الأزمة السياسية التي كان يعاني منها بسبب إستقالة عدد كبير من قياديه و بالتالي أستغلالهم، هذه القيادات، للرأسمال الرمزي و المادي للأتحاد لأهداف مركبة منها سياسية و شخصية لم يكن بمقدورهم تحقيقها داخل الإتحاد الوطني إذا ما لم ينشقوا عنه، لاسيما بعد الإخفاق الذي مني به جناح الإصلاح لهذه القيادات داخل الإتحاد في الإنتخابات الحزبية عام 2006 و الذي تحول فيما بعد، و أعني هنا جناح الإصلاح للأتحاد، الى قائمة و حركة سياسية مستقلة بعد أن أستقال أغلبهم و ظل الآخرين منهم داخل الحزب للأستفادة من الرأسمال الرمزي و المعنوي للأتحاد و كسب جزء من قاعدة هذا الحزب لحركتهم. و إذا أردنا اليوم أن نوصف هذه الحركة، أي التغيير، فلا مراء من أنها ولدت في حضن الأتحاد نفسه و أكتسبت قاعدتها الجماهيرية داخل صفوف الأتحاد و و حتى النخبة المُحركة لها و لجميع مرافقها التنظيمية و التعبوية و الإعلامية منذ البداية و حتى الآن هي من كوادر الأتحاد الذين لهم تجربة كبيرة في العمل الحزبي و التنظيمي، ما يعني هنا أن الحديث أن ولادة الحركة كحركة سياسية و أجتماعية مستقلة و جديدة و مكونة من تلقاء نفسها و دون أي خلفيات، ليس سوى مخادعة سياسية، هذا إذا لم نؤمن بما يقوله بعض القيادات في الأتحاد عن مسألة مساعي رئيس حركة التغيير، السيد نوشيروان مصطفى، منذ عام 1992 لخلق نواة هذه الحركة من خلال تشكيله لتكتل حزبي خاص به تكون أغلبهم من أقاربه أو أهالي مسقط رأسه، أي مدينة السليمانية، و ما طبيعة مناطقية نفوذ حركة التغيير إلا دليلاً قاطعاً على ذلك.


الأمر الثاني الذي ينبغي مناقشته هنا، هو تقديم الكاتب للأتحاد في صورة بشعة تتمثل في، كما يقول، قطع الأتحاد لارزاق أنصار التغيير و طردهم من وظائفهم و مضايقة مؤيدي الحركة في حملات بوليسية و روايات أخرى من هذا القبيل، و الحق أن هذا الأمر واضح منه بأنه مجرد عبارة عما نرصده يومياً في خطاب الأخوان في حركة التغيير و ليس تقييماً موضوعياً لكاتب يهمه الحقيقة، أما واقع الأمر هو أن هذا الملف، كما راقبناه، حُسم أخيراً في القضاء و ظهر بطلان الشكاوي التي تقدمت بها الحركة و ذلك على ما سمعناه على لسان محامي الأمين العام للأتحاد دون نلمس فيما بعد ولو تعليقاً من الحركة ينفي هذا الأمر، هذا رغم أننا نعلم تماماً أن من حق الحزب، كما هو الحال في جميع الأحزاب السياسية في العالم، أن يجرد أي عضو له من أي إنتماء أو أية علاقة معنوية و مادية به إذا ما عمل بالضد من مصلحة الحزب، و هذه الأحكام و المسلمات موجودة في منهاج و برامج كافة التيارات و الأحزاب السياسية، فما بالك إذا قامت أنصار الحزب بضرب الحزب من داخله من خلال العمل على تعبئة الناس ضد الحزب لصالح حركة سياسية أخرى كما هو الحال مع من تعتبرهم اليوم حركة التغيير بأنها أنصارها. و المُخجل هو أن يصل الأمر في الإنتخابات الأخيرة (7/3) الى حد جنوني هو أن يعلن بعض من كبار ضباط قوى الأمن الداخلي و بزي رسمي و عسكري و أمام أنظار العالم و على شاشات التلفاز، سعيهم لتغيير النظام و السلطة أثناء الحملة الإنتخابية و ذلك بتحريض الحركة بينما يعلم الجميع أن هذا الموقف ليس موقفاً غير قانوني فحسب و أنما لا مثيل له في أي مكان من أنحاء العالم، كما يتعبر مخالفة قانونية إن لم نقل بمثابة أعلان إنقلاب على الحكومة.

ثالثاً: ينبغي أن نصحح هنا أمر آخر و هو الإعتقاد بأن ليس من حق الدولة و الحكومة أن تغير موظفيها أو نقلهم من مكان الى آخر أو حتى الأستغناء عنهم، و ذلك بذريعة أن هذا المأمور أو الموظف هو تابع للحركة السياسية الفلانية أو الحزب الفلاني، بينما الحقيقة هي أن الحكومة واجب عليها أن تمارس حقها هذا، و لا معنى لتسيس هذه الإجراءآت الإدارية طالما تطال جميع موظفي الدولة، هذا فضلاً عن حق الحكومة تغيير طاقم الموظفين التابعيين للمعارضة إذا ما ظهر لها أنهم يعملون من أجل شل الحكومة و ضربها من داخلها، و ذلك لحساب قوى سياسية معارضة و بتحريض منهم. و الجميع يعلم أنه حتى في الولايات المتحدة التي تعتبر اليوم معقلاً للديمقراطيات المتقدمة تُمارس فيها مثل هذه الإجراءآت الإدارية و يتم نقل الموظفين بل الأستغناء عنهم لاسيما مع تغيير أدارات البلاد و تداولها بين حزب و آخر.. و كذلك من حق الحكومة أن تستعين أيضاً بموظفين مخلصين و أمناء على مصالح الشعب لا بأولئك الذين يعلنون سعيهم لتغيير الحكومة و أسقاط السلطة بينما هم موظفون لدى الحكومة و السلطة، و لا أعتقد بأن ثمة من يؤيد هذه العقلية الإنقلابية بذريعة حق الموظف في البقاء في وظيفته حتى و إن كان فاسداً من حيث الإخلاص و الإلتزام بالقوانين.


بأختصار شديد، لم يكن الكاتب جمال عبدالكريم موضوعياً في الوقوف على موضوعه فضلاً عن توهمه بإنهار الأتحاد بينما الآمر هو أن مكانة و موقع هذا الحزب في الإنتخابات الأخيرة، حسب كل المؤشرات و الأرقام و المعطيات، أفضل بكثير من الإنتخابات السابقة، لذا لم أفهم حقيقةً لمَ علق نفسه بأوهام لايصادقها لا الواقع و لا الحقيقة؟!


* كاتب و باحث سياسي ndash; كردستان العراق