تحاول الدراسات التاريخية توضيح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت قائمة في عصر من العصور لوضع القارئ على حقيقة تلك الأوضاع وبيانها في توثيق لتاريخ كان غائباً (أو مغيباً) في مرحلة من المراحل ومواكبة التطور العمراني. يكتسب الكتاب أهميته نظراً لكونه من محفوظات السلطان عبد الحميد الثاني الخاصة، ولكونها من أعمال مصورين محترفين ذوي شهرة واسعة، سواء في أوروبا أو في السلطنة العثمانية نفسها، والذين كان من بعضهم من التابعية العثمانية العاملين في المؤسسات العسكرية.
لقد تعرضت بيروت لسلسة من التغيرات الجذرية طالت بنية المدينة بشكل عام، بسبب سياسة السلطان عبد الحميد الثاني الهادفة إلى تنظيم الدولة وعصرنتها عبر ضخ رؤوس الأموال والمشروعات الضخمة، فتم مد سكة حديد بين بيروت ودمشق، وتطوير مرفأ بيروت وهو شريان اقتصادي حيوي لبلاد الشام آنذاك، فانعكس تحسن الوضع الاقتصادي على الأوضاع الاجتماعية والثقافية التي كانت وراء التغيير في التركيبة الاجتماعية لبيروت، من خلال ظهور طبقة غنية أقامت في أحياء جديدة، وأدت إلى توسع المدينة وامتدادها.
فقد ارتفعت أبنية الدوائر الرسمية نتيجة لانتقال الأعمال الإدارية من أيدي العسكريين إلى أيدي البيروقراطيين، الذين كانوا يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالبيروقراطية المركزية من خلال منحهم الرتب والأوسمة والدرجات الشرفية. وأقيمت المؤسسات الصحية كالمستشفى الحميدي والمستشفى العسكري، كجزء من التنظيم الصحي ذي النفع العام الذي تدخلت فيه حكومة السلطان عبد الحميد الثاني، والتي اهتمت أيضاً بالمحافظة على دائرة الحجر الصحي وترميمها.
كما شهدت بيروت إقامة محطات القطار والميناء والمستودعات والفنادق والبريد؛ لمواكبة التطور بما يتناسب مع استخدام السفن البخارية والقطار في عمليات النقل والمواصلات، وارتفعت المعالم التذكارية المتمثلة ببرج الساعة والسبيل الحميدي لجذب الناس إلى السكن في الأماكن القريبة منه.
أما على الصعيدين العلمي والثقافي، فقد ازداد انتشار المؤسسات التعليمية الرسمية في أنحاء المدينة على كافة المستويات، الابتدائية والرشدية (تدخل نطاق التعليم المتوسطي)، والإعدادية (المدارس المتوسطة)، والسلطانية ذات التعليم العالي، والمدارس المهنية (مكتب الصنائع الحميدي) التي عنيت بتخريج الفنيين والتقنيين المؤهلين. وعملت هذه المؤسسات التعليمية على منافسة النشاط الثقافي الغربي ومؤسساته العاملة في المدينة. فشدد السلطان عبد الحميد الثاني على تعميق وترسيخ مبدأ laquo;العثمنةraquo; في نفوس الطلاب، والتمسك بالثقافة والفكر العثمانيين مما يضمن ولائهم والانسجام مع سياسته العامة.
وأوكل إلى نظارة المعارف العمومية مهمة إقامة المدارس ووضع خطط وبرامج التعليم، والعمل على نشر اللغة التركية (العثمانية)، في حين اقتصرت صلاحيتها على الرقابة فقط على مناهج المؤسسات الأجنبية من خلال laquo;هيئة التفتيش والمعاينةraquo;.
وفي عهد عبد الحميد الثاني، جرت متابعة العمل في العقود التي كانت قائمة لمد قنوات مياه الشفة وري البساتين، والعناية بنظافتها، طبقاً لمعايير ومقاييس جديدة، وتمت في عهده إنارة المدينة بالغاز المستخرج من الفحم الحجري. ودخلت بيروت مرحلة تحديث البنية التحتية في مجال المواصلات، تنشيطاً لحركة المرور ودفع عجلة التجارة وتماشياً مع روح العصر، فعمدت الحكومة إلى شق الطرق المنتظمة، التي ربطت الميناء بداخل المدينة. وأقيمت خطوط سكة الحديد لربط بيروت بمدينة دمشق لتيسير عملية التبادل التجاري وانتقال الجنود. وقد ساعد الرأسمال الأوروبي في بناء هذه السكة. ودخل الترامواي أيضاً في خدمة النقل، وكان يمثل إحدى التقنيات الغربية التي تركت بصماتها على الحياة في المدينة.
وتميزت تلك المرحلة بالسرعة في اتخاذ القرارات المتعلقة ببيروت والحرص على الاطلاع على كافة التقارير والمراسلات، في دلالة واضحة على اهتمام السلطان عبد الحميد الثاني بهذه المدينة، خاصة أن المراسلات المرفوعة المرفقة بدراسة موجزة عنها من قبل الصدر الأعظم كان يتم إصدار المرسوم السلطاني بصددها في مدة لا تتعدى يوماً واحداً. مما يؤكد على أهمية مدينة بيروت لدى السلطان عبد الحميد الثاني في تلك المرحلة من تاريخ السلطنة، وتبوئها لمكانة متقدمة على قائمة المدن التابعة للسلطنة العثمانية.

عنوان الكتاب: بيروت والسلطان، 200 صورة من محفوظات عبد الحميد.
تأليف: سوسن آغا وخالد عمر تدمري.
الناشر: تراب لبنان، بيروت، طبعة أولى، 2009م.
عدد الصفحات: 200صفحة.

كاتب وباحث
[email protected]