عنوان الكتاب: الإمبراطورية الأمريكية إلى أين؟.
المؤلف: الدكتور سهيل عروسي.
الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طبعة أولى، 2009م.
عدد الصفحات: 210 صفحة.
إذا كان اختيار (باراك أوباما) لاعتلاء سدة البيت الأبيض، بوصفه أول رجل ملون (أسود) يصل إلى ذلك المنصب، قد قصد من خلال محاولة تغيير الصورة النمطية التي انطبعت في أذهان العالم بعد ثماني سنوات عجاف من إدارة بوش، والتي مثلت خلالها الولايات المتحدة نموذجاً حدياً لفرط استعمال القوة ونسف جسور التعاون حتى مع الحلفاء، فإن محاولة الرئيس (أوباما) تحسين تلك الصورة لا تزال تعاني من آثار النظرة السابقة وتداعياتها، وتصطدم بالمصالح الامبريالية لما بنته الولايات المتحدة خلال الفترة السابقة عبر امبراطوريتها العسكرية.
يحاول المؤلف الإجابة عن سرّ تخلف الخطاب القيمي للولايات المتحدة عن مواكبة نموها العسكري الموازي، في ضوء الأسس التي تبنتها عند الاستقلال، ومآل واحدة من أهم الامبراطوريات الحديثة من الناحية السياسية. فالآباء المؤسسون كانوا يؤمنون بأن الهجرة نحو أمريكا إنما هي هجرة نحو كنعان الجديدة لبناء القدس الجديدة، هذا الفهم الغيبي للتاريخ يشكّل المرتكز العقدي للسياسة الأمريكية في علاقتها مع quot;إسرائيلquot;، فالله (يهوه) قد اصطفاهما، واختارهما من بين كل شعوب الأرض، وهو الذي أمرهما باجتثاث السكان الأصليين وإبادتهم، وخلال التاريخ، استطاع الأمريكيون التوفيق بين ثنائية (الله والوطن)، فالله بالنسبة للأمريكيين هو في خدمة الوطن وتستمر عملية التناغم ما دام الله في خدمة الوطن، فالدين وفق المفهوم الأمريكي، مختلف عن مفاهيم الشعوب الأخرى، وهو ما أدى إلى اتساع الهوة بينهم وبين الشعوب الأخرى.
ولعل من أهم مقومات الهوية الأمريكية غياب البعد الجغرافي الذي ينظر دائماً إلى الأرض المفتوحة باعتبارها أرضاً أفضل، فضلاً عن غياب البعد الثقافي بمعانيه غير الدينية بسبب افتقادها إليه، فهي أمة تفتقر إلى التجانس الثقافي الذي يجمع إحداثيات الهوية، وتتجلى أزمة الهوية الأمريكية اليوم في البعد الديمغرافي، وصعوبة استمرار التماسك الاستراتيجي مع تحوّل أمريكا إلى مجتمع متعدد الثقافات. مما جعل أمريكا تتأرجح بين تيارين، الأول يعتبر أن أمريكا شعب واحد وحقوق متساوية وثقافة مشتركة. والتيار الثاني الذي يعتبر أمريكا اتحاداً عرقياً وإثنياً، ومجموعات ذات ثقافات قومية فرعية تجمعها منافع مادية. مما يتطلب البحث عن عدو تجمع الأمة بكافة أعراقها وتشكيلاتها الأثنية، والثقافية على ضرورة مواجهته بتغليب جدلية quot;نحنquot; وquot;همquot;، وتغييب جدلية quot;أناquot; وquot;أنتquot;. ونظراً لعدم قدرة أمريكا على البقاء دون عدو، فقد رأت في الإسلام والصين العدو الضروري، وبالنسبة للصين، يمكن للولايات المتحدة مواجهتها عبر الاقتصاد بالتعاون مع أوروبا واليابان. أما بالنسبة للإسلام فالأمر أصعب، فالإسلام ثقافة، وليس اقتصاداً، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة.
يؤكد الكتاب على هيمنة الفكر الديني المتزمت الذي حمله المهاجرون الأوائل على المشهد الثقافي الأمريكي، مما يتعارض مع مفهوم الحداثة التي تروج له، وأدى إلى تسلل الضعف إلى الواقع الأمريكي (إعصار كاترينا نموذجاً)، إذ أظهر الإعصار ضعف شبكة الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة، واستمرار التمييز العنصري، وأفضى إلى التشكيك بالحلم الأمريكي بالنسبة لبقية الشعوب، وعبرت عن عيوب الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي حدد معالمها المفكر الأمريكي quot;بانارينquot; من خلال الاعتقاد بأن نهاية التاريخ قريبة، وأن الإنسانية تخوض آخر معركة بين الخير الليبرالي والشر المناهض لليبرالية، وهي معركة نتيجتها محسومة لصالح الخير الليبرالي، واعتبار النموذج الأمريكي للرأسمالية التشكيلة الاجتماعية التاريخية التي تتفوق حتماً على كل ما سبقها، وتحمل الولايات المتحدة مهمة إرغام العالم على تقبل ديكتاتوريتها وتكريس قطبيتها خلافاً لمنطق التاريخ.
يحلل الكتاب بعد ذلك نظرية (هنتيغتون) حول صدام الحضارات بالنظر إلى الواقع الديمغرافي والتحولات التي ستطرأ عليه، فالولايات المتحدة ستكون دولة صدع بحلول العام (2020)، إضافة إلى تدني القيم الأسرية والانحلال الأخلاقي الظاهر في السلوكية الأمريكية ما يجعلها تسير على خطى روما القديمة، مما سيفضي إلى نهاية عصر الهيمنة الغربية وصعود قوى أخرى. وفي رؤيته للصراع بين الإسلام والغرب، يرى هنتيغتون أن هناك مجموعة من العوامل ساعدت على تأجيج الخلاف بينهما، والمشكلة لدى الغرب بالنسبة للمسلمين، ليست في الأصولية الإسلامية، بل في الإسلام في حد ذاته، واتساع الهوة بينهما ناتج عن النمو السكاني الإسلامي، فضلاً عن أن الصحوة الإسلامية التي أعطت ثقة للمسلمين بحضارتهم، والمحاولات المستمرة للغرب لتعميم قيمه ومؤسساته، وبناء على ذلك، فإن القرن الحالي لا يمكن أن يكون أمريكياً، كما يروج له اليمين المحافظ.
ويتوقع المؤلف أن تدوم الهيمنة الأمريكية إلى منتصف القرن الحالي، وأن البديل الموضوعي سيكون الطريق الثالث، باعتباره الطريق الذي أقرته الأديان السماوية عبر مفهوم الوسطية والاعتدال والقائم على النسبية الثقافية والتعددية السياسية والاجتماعية، وأن الولايات المتحدة لن تكون بمنأى عن خطر التفكك بسبب اعتمادها على الأحكام الإطلاقية، إذ أثبتت التاريخ أن البقاء والاستمرار هو لقوة الحضارة لا لحضارة القوة، ضارباً مثالاً على ذلك بأحداث 11 أيلول التي هزت مفهوم الأمن والهيمنة الأمريكية. مما يمنح استراتيجية أوباما الجديدة لتجاوز ماضي أمريكا دعماً معنوياً كبيراً، سيما مع استبشار بقية دول العالم بمواقفه وحثه عليها، ما لم يتم إجهاض تجربته من قبل جماعات المصالح الأمريكية، وقبل هذا التراث الأمريكي المشبع برؤى التفوق والهيمنة غزو العالم.
كاتب وباحث
[email protected]
التعليقات